
طال سبات حرفي، و كأن الزمن المحموم يفرض علينا معادلة قاسية إما أن نرتدي عباءة الدجال، أو نصبح صوامع للأحزان، نُرتل صلوات البكاء في صمت الراهبين… كلما غضضنا البصر عن ترهلات المشهد السياسي، وحشدنا أرواحنا في معركة الكرامة، تخرج علينا النخبة السياسية السودانية من كهوف الصمت، بعد شهور الحرب الضارية، محملة بأحلام واهية تُلقيها في حضن الوساطات، علّها تتصالح مع خيباتها.
تطل علينا عبر شاشات الإعلام، أنوفها منتفخة بكبرياء زائف، تتحدث بفصاحة مُصطنعة عن مواهبها الفذة، وأفكارها الحالمة لتغيير وجه السودان… تواصل خداعنا، مُتسلحة بلغة مُرهقة تُخفي بها عجزها السياسي الفاضح، ذاك العجز الذي سقط بالبلاد في هاوية المصير المجهول.
تتناسى، أو تتعامى، عن حقيقة أن الشعب السوداني قد نضج وعيه، و أن ذاكرته لا تُغفل و لا تنام. شعبٌ يُوقد ذاكرته بالنار، و يسرج أيامه على ضوء التجارب و الآلام… لن تُخدعه الكلمات المنمقة و لن تُضلله الوعود العارية. فقد تعلم، بمرارة الفقد، أن طريق الكرامة يُشقُّ بالعزيمة، لا بالأوهام.
لن ننسى يومًا أن هذه الحرب تسببت في مقتل مئات الآلاف من أهلنا وأحبابنا، وشردت الملايين، واقتلعتنا من بيوتنا التي غدت أطلالًا تسكنها الأشباح… تجرعنا مرارة الذل و المهانة، و انكسرت كرامة آبائنا و أمهاتنا كبار السن بين أيدي مجرمين تجردوا من أدنى قيم الإنسانية… أُهين شرف بناتنا تحت وطأة الاغتصاب، و استشرى الفقر و العوز، و ارتفعت معدلات البطالة، وتفشت الأمراض الجسدية والنفسية.
لكننا اليوم، وبكل النضج و الوعي الذي صقلته الحرب في عقولنا، أصبحنا قادرين على التمييز بين الغَثّ و السَّمين… أدركنا أن الديمقراطية في السودان ما زالت فكرة سطحية و مصطلحًا مبتورًا في أذهان النخب السياسية، مما عمّق أزمة الثقة في نظام حوّلته الأحزاب إلى شعارات جوفاء تُستغل لتحقيق مصالح حزبية أو مكاسب شخصية ضيقة.
وما اندلاع هذه الحرب إلا مرآة صادقة تعكس بجلاء الأزمة العميقة التي تعصف بالسياسة السودانية، حيث تتجلى هشاشة الطرح السياسي، واتساع الفجوة بين الخطاب والممارسة… فالأحزاب السياسية، كعادتها، تتصارع على الكراسي والسلطة، دون أن تلتقي حول رؤية أو استراتيجية وطنية واضحة، بل إنها تواصل ارتكاب أخطاء معرفية فادحة تتعلق بفهم طبيعة الحكم والإدارة.
ومن أكثر الكوارث التي ترتكبها هذه النخب غير الناضجة، تفريغ القضايا السودانية من مضمونها الحقيقي، واستغلالها كأدوات للابتزاز السياسي والمكاسب الشخصية… خذ مثلًا جدلية الهامش والمركز؛ فالحقيقة أن السودان بأسره يعاني من التفاوت التنموي، حيث لا تقتصر الأزمة على منطقة بعينها، بل تمتد لتشمل كل شبر من الوطن. السودان كله يرزح تحت وطأة العوز والحاجة، فلا تزال الأرواح تُزهق بسبب غياب الأدوية وارتفاع أسعارها، ولا تزال العاصمة، حتى قبل الحرب، تعاني من انقطاع الكهرباء بشكل مستمر، فيما تفتقر العديد من المناطق إلى مياه صالحة للشرب… وما زالت العربات الكارو تجوب شوارع الخرطوم، حتى في الأحياء التي تُسمى راقية، كأنها تذكير دائم بواقعٍ يفتقر لأبسط مقومات الحياة الكريمة.
أما شوارع العاصمة، فلا تزال غارقة في الإهمال، غير معبدة، لتتحول في موسم الخريف إلى مستنقعات تعجُّ بالذباب والبعوض، وتُسهم في تفشي الأمراض، وكأن كل تفاصيل الحياة هنا تصرخ مطالبةً بالتنمية.
إن هذا الواقع المؤلم يفضح زيف الشعارات، ويُحتم على الجميع إدراك أن الخلاص لن يأتي إلا بوعي حقيقي، و رؤية وطنية تُعلي مصلحة السودان فوق كل اعتبار.
لقد ارتضى الشعب السوداني بوطنٍ شحيح الإمكانات، لكنه غني بالعزة و الكرامة. عشقنا ترابه، و وجدنا فيه الأمان و السلام النفسي، و ابتعدنا عن السياسة اتباعًا لنصيحة آبائنا: “ابتعدوا عن السياسة.” لكن الآن، و قد اقتحمت السياسة بيوتنا عنوة، لا بد أن نقول للقوى السياسية بكل وضوح:
“أنتم بحاجة إلى إصلاح شامل. لن نقبل بعد اليوم بحكومة بلا برنامج تنموي، بلا رؤية إصلاحية، وبلا خطط استراتيجية… كراسي السلطة كلفتنا دماء أبنائنا و شرف بناتنا.”
السودان أنجب علماء ومبدعين ملؤوا العالم شرقًا و غربًا بعلمهم وتميزهم، فكيف يُعقل أن يحكمنا من لا يُجيد حتى كتابة اسمه؟!!
لن نقبل بتنافس أحزاب تخدم مصالح أسرية ضيقة، برنامجها السياسي الوحيدة هو الحفاظ على إرث العائلة، و تمكين أفرادها، ليُعيدونا إلى عهود السادة و العبيد.
لن يحكمنا فكر سياسي انتهت صلاحيته ودُفن مع الزمن… من العبث أن نُعيد إحياء منظومات أثبتت فشلها مرارًا.
لن تُحكم بلادنا بأحزاب لا يتجاوز عدد أعضائها أصابع اليد، بعد أن تشظت بانقساماتها الداخلية… فمن عجز عن إدارة نفسه، كيف سيُدير وطنًا؟!!
لن نقبل بأحزاب لا تُمارس الديمقراطية في داخلها، ثم تدّعي قدرتها على بناء ديمقراطية في السودان.
ثم و نُخاطب الحكومة برجاء ممزوج بالإصرار:
ضعوا قانونًا صارمًا ينظم النشاط السياسي، فقد أرهق السودان أجيالًا و هو يرزح تحت عبء الفوضى السياسية و انعدام الضوابط.
نحن شعب تعلم الدرس غاليًا، و لن نُفرّط في مستقبل سوداننا مرة أخرى.