الهوية السودانية: حقيقة راسخة أم أزمة مُصطنعة؟ بقلم/ د. غادة الهادي يوسف أحمد

مقدمة
في الآونة الأخيرة، ازداد الحديث حول الهوية السودانية، حيث يروج البعض لفكرة أن السودان يعاني من أزمة هوية. هذه الفرضية تثير العديد من التساؤلات الجوهرية: هل السودان حقًا فاقد لهويته؟ وما الذي يميز الشعب السوداني عن غيره من الشعوب؟ هل يمثل التنوع العرقي و الثقافي و الديني تهديدًا للهوية الوطنية، أم أنه مصدر قوة؟ و كيف يمكن استثمار هذا التنوع لتعزيز الوحدة الوطنية بدلاً من أن يكون أداة للفرقة و النزاعات؟
1.مفهوم الهوية:
الهوية هي مجموعة السمات الثقافية والاجتماعية والدينية والتاريخية التي تميز جماعة معينة عن غيرها. و هي ليست ثابتة أو جامدة، بل تتطور عبر الزمن وفقًا للظروف السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية. في السياق السوداني، تتجسد الهوية في العادات، و التقاليد، و اللغة، و الدين و التاريخ المشترك .
هل السودان يعاني أزمة هوية؟
يتميز السودان بتعدد أعراقه و ثقافاته و لغاته و طوائفه الدينية، لكن هذا التنوع لم يكن سببًا في فقدان الهوية الوطنية. فعلى الرغم من الاختلافات، يعرّف السودانيون أنفسهم بهويتهم الوطنية عند التعامل مع المجتمعات الأخرى. و كما أشار فرانسيس دينق (1995) في كتابه صراع الرؤى في السودان، فإن الصراع حول الهوية في السودان لم يكن نتيجة غياب الهوية، بل بسبب محاولات فرض هوية واحدة على مجتمع متنوع مما أدى إلى نزاعات داخلية.
السودانيون، سواء داخل الوطن أو خارجه، عندما يُسألون عن هويتهم، يجيبون بفخر: “أنا سوداني.” و هذا يعكس انتماءً واضحًا للأرض والتاريخ والثقافة السودانية. ورغم اختلاف الأعراق والقبائل والمناطق التي ينحدر منها الأفراد، فإن الهوية السودانية ظلت القاسم المشترك الذي يجمع الجميع. لذا، فإن القول بأن السودان فاقد لهويته هو مجرد افتراض لا تدعمه الوقائع التاريخية و الاجتماعية .
2.التنوع الثقافي: قوة أم مصدر خلاف؟
كما أوضح عبد الله علي إبراهيم (2008) في كتابه الثقافة و الديمقراطية في السودان، فإن التنوع في السودان لم يكن يومًا مصدر ضعف، بل كان يمكن أن يكون ركيزة للاستقرار لو تم إدارته بسياسات عادلة تضمن اندماج جميع الفئات في الدولة الوطنية. السودان يضم أكثر من 570 قبيلة تتحدث أكثر من 100 لغة و لهجة محلية، مما يجعله واحدًا من أكثر الدول تنوعًا في القارة الأفريقية (مركز الدراسات السودانية، 2017) .
هذا التنوع الثقافي ليس عائقًا أمام الوحدة، بل يمكن أن يكون مصدر قوة إذا تم استثماره بشكل صحيح. فقد نجحت العديد من الدول في تحويل التنوع إلى ميزة من خلال سياسات تعزز احترام التعددية الثقافية، و توفر فرصًا متساوية لجميع المجموعات، و تضمن حرية التعبير عن الهويات المختلفة دون إقصاء أو تهميش. و قد عظّم الله سبحانه وتعالى الاختلاف في القرآن الكريم، حيث قال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات: 13) .
3.السياسات وتأثيرها على الهوية السودانية:
بحسب محمد أبو القاسم حاج حمد (1989) في كتابه السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل، فإن فشل الدولة السودانية في بناء هوية وطنية جامعة كان نتيجة التوجهات الأيديولوجية التي حاولت إقصاء بعض المكونات لصالح أخرى، مما أدى إلى تعميق أزمة الهوية. فقد تبنت بعض الأنظمة سياسات مركزية لم تعترف بالتنوع السوداني، بل سعت إلى فرض هوية واحدة مما تسبب في نشوء صراعات سياسية و اجتماعية.
4.التعددية و التسامح و دورهما في تشكيل الهوية السودانية:
التعددية في الهوية السودانية:
يُعد السودان من أكثر الدول تنوعًا في أفريقيا، حيث يضم أكثر من 500 مجموعة إثنية تتحدث عشرات اللغات و اللهجات المحلية (حسن، 1996). هذا التعدد الثقافي لم يكن مجرد تنوع في الأعراق و اللغات، بل انعكس على الفنون و العادات و التقاليد التي شكلت الهوية السودانية على مر العصور. غير أن هذا التنوع لم يخلُ من التحديات، حيث شهد السودان نزاعات أهلية عديدة كان بعضها مدفوعًا بتوترات مرتبطة بالهوية و الانتماء (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2020 ) .
التسامح كمبدأ لتعزيز الهوية الوطنية:
رغم التوترات التاريخية، لطالما كان السودان مثالًا للتسامح الديني و الثقافي، حيث تعايشت فيه الأديان والمعتقدات المختلفة لقرون (محمد، 2018). لعبت الطرق الصوفية دورًا كبيرًا في نشر قيم التسامح و الوسطية، مما جعلها عنصرًا أساسيًا في تشكيل وجدان السودانيين (إبراهيم، 2000). كما ساهمت العادات الاجتماعية مثل “الجودية” في حل النزاعات بطرق سلمية مما يعكس طبيعة المجتمع السوداني المتسامح (اليونسكو، 2019).
التعددية و التسامح كمدخل لحل النزاعات:
في ظل النزاعات التي مر بها السودان، بات من الضروري تبني نهج قائم على احترام التعددية و تعزيز ثقافة التسامح من خلال التعليم و الإعلام و التوعية المجتمعية. إن الاعتراف بجميع المكونات الثقافية كمصدر قوة و ليس كعامل تفرقة هو السبيل الأمثل لتحقيق المصالحة الوطنية و إعادة بناء السودان على أسس عادلة و شاملة.
5.الهوية السودانية: بين الماضي و المستقبل:
لا يمكن الحديث عن الهوية السودانية بمعزل عن تأثير العوامل السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، لكن يظل التسامح و التعددية مفتاحين أساسيين لإعادة تشكيل هوية وطنية جامعة. إن تعزيز هذه القيم في المناهج الدراسية، و الخطاب الإعلامي و السياسات العامة هو ما سيضمن وحدة السودان و استقراره في المستقبل.
6.نماذج ناجحة لدول استطاعت تحويل التنوع إلى مصدر قوة:
عدة دول حول العالم نجحت في تحويل تنوعها العرقي و الثقافي إلى عنصر قوة و وحدة بدلًا من أن يكون مصدر انقسام، و من أبرز هذه الدول:
ماليزيا: استطاعت أن تدمج المجموعات العرقية المختلفة (الملايو، الصينيين، والهنود) في نسيج اجتماعي متجانس من خلال سياسات اقتصادية و اجتماعية عادلة.
الهند: رغم التنوع الكبير في اللغات والأديان، تمكنت الهند من بناء ديمقراطية قوية تحترم التعددية الثقافية .
جنوب أفريقيا: بعد عقود من الفصل العنصري، تبنت الدولة سياسات دمج و مصالحة وطنية جعلت التنوع عنصرًا أساسيًا في بناء المجتمع الجديد.
السودان يمكنه الاستفادة من هذه النماذج الناجحة عبر تبني سياسات تعزز الهوية الوطنية الجامعة بدلًا من سياسات الإقصاء و التمييز.
7.كيف يمكن أن يكون الاختلاف نعمة و ليس نقمة؟
لتحويل التنوع إلى مصدر قوة، لا بد من العمل على:
تعزيز الهوية الوطنية من خلال سياسات تضمن مشاركة جميع المكونات الثقافية و الاجتماعية في صنع القرار وتحقيق التنمية المتوازنة.
ترسيخ مفهوم قبول الآخر من خلال نشر ثقافات و عادات وتقاليد مختلف المجموعات السودانية و ضمان حرية التعبير عنها دون خوف أو إقصاء.
إصلاح المناهج التعليمية بحيث تتضمن تاريخ و ثقافات جميع المكونات السودانية، لتعزيز روح الانتماء المشترك منذ الصغر.
إطلاق مبادرات إعلامية و ثقافية تروج لفكرة التنوع كقيمة إيجابية، و تشجع على الحوار و التعايش بين مختلف المجموعات.
تحقيق العدالة الاجتماعية و الاقتصادية بحيث يشعر كل مواطن، بغض النظر عن خلفيته، بأنه جزء من الدولة و له حقوق متساوية.
تطوير آليات التسامح و التعددية التقليدية في المجتمع السوداني لتصبح منهجًا للحياة اليومية.
خاتمة:
الهوية السودانية ليست أزمة، بل هي حقيقة راسخة و متجذرة في وجدان الشعب. و مع ذلك، فإن سوء الإدارة السياسية و استغلال التنوع لإحداث انقسامات هو ما يهدد الوحدة الوطنية. الحل ليس في البحث عن هوية جديدة، بل في الاعتراف بالتنوع و إدارته بشكل عادل يحقق التعايش السلمي و يعزز الانتماء المشترك.
قائمة المصادر والمراجع:
اولا المصادر :
1.القرآن الكريم
ثانيا الكتب:
1 . أبو القاسم حاج حمد، محمد. (1989). السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل. دار ابن حزم.
2 . إبراهيم، عبد الله علي. (2000). السودان: الهوية والصراع الثقافي. مركز الدراسات السودانية.
3 . إبراهيم، عبد الله علي. (2008). الثقافة و الديمقراطية في السودان. مركز الدراسات السودانية.
5 . حسن، يوسف فضل. (1996). تاريخ السودان الثقافي والاجتماعي. جامعة الخرطوم.
6 دينق، فرانسيس (1995). صراع الرؤى في السودان. دار جامعة إلينوي للنشر..
7. . منصور خالد. (2003). السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام. دار رياض الريس للكتب والنشر.
8. هنتنغتون، صامويل. (1996). صدام الحضارات و إعادة تشكيل النظام العالمي. ترجمة مالك سعيد بدر الدين، مركز الأهرام للنشر.
9. يونغ، جون، (2012) السودان: السياسة و الحرب و السلم. مطبعة جامعة إدنبرة
ثالثا التقارير:
(UNDP ,2020) برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ، تقرير التنمية البشرية في السودان.
مركز الدراسات السودانية. (2017). تقرير عن التنوع الثقافي و اللغوي في السودان. الخرطوم: مركز الدراسات السودانية.
محمد، أحمد التجاني (2018). “التعددية الثقافية في السودان و أثرها على الوحدة الوطنية”، مجلة الدراسات الأفريقية، العدد 15.
منظمة اليونسكو. (2019). التنوع الثقافي في السودان و دوره في بناء السلام .4
نور الدين، عبد الرحيم. (2015). “التنوع الثقافي وإدارة الهوية في السودان”، مجلة الدراسات الإفريقية ، العدد 12، ص 45-67.