مقالات المواهب
أخر الأخبار

أنين المدن … طالبة طب تحت الحصار .. بقلم/ براءة محمد حسن فضل الله

و ها أنا أعاود الانتحاب بدموع من حبر! فما زالت لغتي هي مصدر الخلاص و قارب النجاة من غيبوبة الأسى، هنالك ذكرى معلقة بين طيات الذاكرة دائماً ما تخرج إلى النور، كنت هائمة في أطراف البيت مسرعة للحاق بمواعيد (الراوند) حاملة سماعتي الطبية لأدخلها بداخلي حقيبتي الصغيرة، و إذ ما رفعت ببصري وجدت أبي الغالي يختلس أنظاره إليّ، تلك الأنظار الموشحة بالفخر على صنيع يديه و عظيم جهده في تعليمي و دراستي لأصبح طبيبة، و لبرهة من الوقت خيل إلي أن عينيه تعكس خوف الآباء.

مشهد آخر يعكس مكنون ذلك الخوف، تدوين عنيف في الخارج، و (دانة) وقعت داخل مستشفى (النو) في عنبر الباطنية و زهقت أرواح الكثيرين الذين شاءت بهم (الأغدار) التواجد في المستشفى، مرضى في العنبر و عدد من الكادر الطبي على أثرها، بينما هنالك جسد مريض على طاولة العمليات يحاوطه مجموعة من الأطباء الذين علا صوت دقات قلوبهم من صراخ الناس في ساحة المستشفى و صوت الدانة الذي يصمم الآذان من فرط قوته، و هم فقط آملين في بث الحياة لذلك الجسد الذي أنهكته الأوجاع و الأسقام.
هل تنامى إلى خاطرك عزيزي القارئ مدى بسالة هؤلاء الأطباء؟ فهم يخوضون المعارك مثل عساكر الجيش، ولست أعني بذلك معركة محاربة الموت والحفاظ على حياة المرضى فقط بل أعني معارك بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فمنذ نشوء هذه الحرب المجحفة و مليشيا الدعم السريع يتملكها ذلك البراح الإبداعي في تعذيب المواطن و الذي تزداد رقعته يوماً بعد يوم، فأصبحت تستعذب قصف المستشفيات في مناطق مدينة (أمدرمان)، في استهداف واضح للمواطن و النية السافرة غير المخبأة في أهلاكه و إثقال روحه.

منذ بدء الحرب وحركة النزوح الضخمة من المدينة قل عدد الأطباء و الجراحين داخل المدينة بصورة كبيرة، و اختار عدد منهم المكوث و إنقاذ الأرواح رغم التحديات الصعبة شبه القاتلة التي قد تواجههم، فهم يصارعون الموت و هائمين بين خيارين لا مفر منهما، و يزداد خوفهم و خوف بقية الكادر الطبي بالأخص عندما يشتد التدوين العشوائي لأنه حتماً و بلا أدنى شك سيحاولون قصف المستشفيات، تراهم يعملون بجد و روح محارب لا يأبى الهزيمة، مستذكرين القسم الطبي بحماية الحياة البشرية بكافة أطوارها و رفع الضرر.
فتجد داخل المستشفى أجهزة التشويش التي تعطي مقداراً من الأمان المزيف فهي قد تمنع سقوط قذيفة المدافع على المستشفى و لكنها لن تمنع سقوط المسيرات إذا ما أسقطت عليها.

و  على أثر هذا فإن شبكة الإنترنت و الاتصالات تكون ضعيفة في داخل المستشفيات و على إثرها أحياناً يصعب الاتصال لمن هم في داخل المستشفى بمن هم في الخارج.
و أيضاً يعمل الأطباء مع نقص حاد في الإمكانيات الطبية و الأدوية و الفحوصات، و على أثره يتعذر عمل الكثير من العمليات فيما يعرض حياة المرضى المصابين للخطر فمسألة تحويل المريض إلى ولاية أخرى تتوفر فيها تلك الامكانيات يمكن أن تدخله في مضاعفات لا طائل لها و زيادة خطر الوفاة المرتبط بتلك المضاعفات، و لكنهم ما زالوا صامدين متحدين كل الظروف متبنين كل معاني الشجاعة و أسماها في الصمود و هم يعلمون الخطر المحدق الذي قد يصيبهم.

تلك الوسمة الشجاعة الأثيلة التي وسمت أطباء مدينة أمدرمان هي وسمة شرف سيبقى أثرها إلى أن يشاء بارئنا، و تنتهي هذه الحرب و إلى أن تعود أرواحنا مطمئنة و تعود الحياة إلى أوجهها التي اعتدنا عليها، سيبقى وسام العزة و الفخر باقِ و محفور في الأفئدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى