
من حين لآخر تثار في المشهد الإعلامي و القانوني في السودان قضية حرية التعبير، و حدود حق التدخل الممنوح للسلطات الإدارية الحكومية لتنظيم الحريات الصحفية، و لا شك أن مجرد الحوار حول هذه الموضوعات هو دليل عافية وطنية، كما أنه فريضة مطلوبة و واجبة بين مؤسسات الدولة المختلفة، لأنه يرسخ لمبدأ التحاور السلمي بين هذه المؤسسات، و هو ما سيقود للتوافق حول أمهات القضايا، و من بينها قضية الأمن القومي التي ظلت محلًا للتجاذب و عدم الاتفاق، الأمر الذي ترتبت عليه نتائج بالغة الخطورة علي وحدة البلاد و سيادتها وجعل قواها الحية تتصارع علي كل شيء، و تختلف علي كل ما يلزم الاتفاق بشأنه. و لمركزية قضية الأمن القومي فإنها تنسحب بصورة مباشرة علي الجدال العام حول كيفية ممارسة الحريات العامة و أساليب تنظيمها بين الأطراف المختلفة من سلطات حكومية و مواطنين.
يلزم القول ابتداءً أن تنظيم حرية التعبير في الدولة الحديثة ليس شيئًا جديدًا يسارع الناس للبحث عن قواعد لتنظيمه حاليًا، و لكنه و لحسن الحظ من الأمور التي اهتم بها التشريع الدولي و أفرد لها النصوص الواضحة و البينة، و حين الحديث عن التشريع الدولي المتعلق بتنظيم حرية التعبير فإننا نعني المواثيق الدولية و الإقليمية، و من ضمنها ميثاق الأمم المتحدة، العهدين الدوليين للحقوق المدنية و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، و الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، و المواثيق القارية لحقوق الإنسان، فقد اهتمت هذه المواثيق اهتمامًا بالغًا بحرية التعبير كونها تعتبر من الحقوق الأساسية للإنسان التي لا يمكن التفريط فيها.
حق تقييد حرية التعبير:
التساؤل الجوهري الذي يطل بين المهتمين بالحقوق هو هل هذا الحق الذي دعت إليه المواثيق الدولية و الإقليمية حقًّا مطلقًا، أم أن هناك قيودًا محددة وردت بشأنه؟ مبعث التساؤلات يأتي دائمًا من فئتين، فئة تنطلق من تصور مثالي يجافي الواقع الماثل، أو يتجاهل الحقائق المستقرة في أرض الواقع، و يحاول محاكمة السلطات الحكومية بمعايير متخيلة لما ينبغي أن يكون عليه واقع ممارسة الحريات العامة، و فئة تنطلق من خلفيات سياسية تسيطر عليها أدبيات (الناشطية السياسية) ، و تتميز بالصوت العالي و القدرة علي التحشيد السياسي دون معرفة القواعد القانونية التي تحكم القضايا محل الخلاف، و لكنها و تحت ذرائع التناصر السياسي أو التعصب المهني تتجاوز المطلوبات الموضوعية نحو توظيف القضايا بنقلها خارج سياقها اللائحي و القانوني إلي ميادين (النضال المزعوم) .
تنقسم الحقوق في المواثيق الدولية إلي حقوق مطلقة لا يمكن تقييدها كحق عدم السخرة أو عدم التعذيب مثلًا، و حقوق قابلة للتقييد، و ذلك لتحقيق غاية أسمي من ذلك الحق الذي يقع عليه التقييد، و أبرز مثال لذلك هو حق التعبير الذي اهتمت المواثيق الدولية فيه بتحقيق التوازن بين الحرية و المسؤولية، فبينما ركزت علي تأكيد حرية التعبير و اعتبارها حقًّا جوهريًا نادت بعدم استغلال هذه الحرية للإضرار بالسلامة العامة أو الغير، و نص العهد الدولي للحقوق السياسية و المدنية في المادة (19) علي الآتي (إن ممارسة الحقوق يترتب عليها واجبات و مسؤوليات خاصة، و علي ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود، و لكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون و أن تكون ضرورية لاحترام حقوق الغير و سمعتهم) و في الفقرة (ب) تقول المادة (لحماية الأمن القومي أو النظام العام، أو الصحة العامة أو الآداب العامة) ، ورد مفهوم تقييد حرية التعبير بصورة واضحة في الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان، حيث نصت المادة العاشرة منه علي الآتي (يجوز إخضاع ممارسة هذه الحريات لبعض المعاملات أو الشروط أو العقوبات المنصوص عليها في القانون، والتي تشكل تدابير ضرورية في المجتمع الديمقراطي للأمن الوطني، أو سلامة الأراضي، أو السلامة العامة، أو حماية النظام و منع الجريمة، أو لحماية الصحة و الأخلاق، أو لحماية سمعة الغير أو حقوقه، أو لمنع الكشف عن معلومات سرية، أو لضمان سلطة القضاء و نزاهته)، و لولا طبيعة هذا المقال المحكوم بعدد معين من الكلمات لتوسعنا في إيراد القيود التي وضعتها المواثيق الدولية و الإقليمية علي حرية التعبير، و لكننا نختم هذه الفقرة بما ورد في الوثيقة الدستورية التي أخذت بمبدأ التقييد أيضًا، ذلك في المادة (57) التي نصت علي الآتي (لكل مواطن حق لا يقيد في حرية التعبير و تلقي و نشر المعلومات و المطبوعات و الوصول إلي الصحافة، دون المساس بالنظام و السلامة و الأخلاق العامة وفقًا لما يحدده القانون).
لمن ينعقد ممارسة إختصاص التقييد ؟
تشترط المواثيق الدولية أن يتم التدخل لتقييد حرية التعبير بناء علي قانون ساري ، ( وأن يستهدف حماية مصلحة مشروعة معترف بها بموجب القانون الدولي ، وأن تكون تلك القيود ضرورية لحماية تلك المصلحة ) ويجادل البعض بأن حق التقييد هذا لا يجب أن تنفذه السلطات الحكومية ولكن يجب أن تطلع به المحاكم ، وهذا خلط ينم عن عدم الإدراك الكامل بطبيعة عمل سلطات الدولة الحديثة ، حيث يقع علي السلطة التنفيذية تنفيذ القواعد التي يجيزها البرلمان ضمانا لحسن إدارة الدولة ، وفي سبيل ذلك تعتمد الدولة علي تنفيذ بعض القوانين التي يجيزها البرلمان ، كما أن الحكومة تطلع بالكامل بتنفيذ بنود القانون الإداري الذي يهتم بفصل المنازعات الإدراية بين الدولة من جهة والأفراد والمؤسسات من جهة أخري ، وهناك جانب مهم يجب الذكير به وهو أن رئيس الجمهورية في النظام الرئاسي يمتلك صلاحيات تشريعية وفقا لقواعد محددة ، وهو ما اشتهر عندنا في السودان بما يعرف بالمراسيم الدستورية ، و قد رأينا هذا الأمر حين وقع الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن قانونًا بحظر تيك توك في الولايات المتحدة الأمريكية بناء علي تقارير أمنية (تنظر بشك لعلاقة الحكومة و الحزب الشيوعي الصيني بالشركة) و في العام الماضي قامت وزارة الداخلية البريطانية بتقديم تحذير لقناة ناشيونال إيران تطالبها (بوجوب إغلاق القناة) مسببة ذلك بمخاوفها من تهديدات إيرانية بتفجير مقر القناة، و يومها احتج مدير القناة متسائلًا (هل واجب الشرطة البريطانية هو ترحيل الصحفيين أم توفير الحماية للصحفيين) ،و لم تتوان وزارة الداخلية الفرنسية في العام 2015 من إغلاق خمسة مواقع إلكترونية استنادًا علي قانونون مكافحة الإرهاب، و في الصين قامت هيئة تنظيم البث في العام 2020 بسحب ترخيص بث قناة (بي بي سي) البريطانية و منعتها من البث داخل الصين بحجة نشرها مواد تنتهك القانون الصيني، و فيما يتعلق بشركة تيك توك قامت عدد من الدول بحظرها بموجب قرارات إدراية و في مقدمة تلك الدول فرنسا، بريطانيا، هولندا و مؤسسات الاتحاد الأوروبي، و قد سبقتهم الهند إلي ذلك، و كل هذه الجهات بررت قرارها بوجود مخاوف أمنية من طريقة عمل التطبيق أو اجتماعية مما يبثه.
أوردنا هذه الأمثلة للتأكيد علي أن سلطة التقييد هي سلطة إدارية تمارسها الحكومات إما من خلال وزارت الداخلية أو الإعلام أو أجهزة الأمن أو هيئات تنظيم رخصة البث، و في السودان لدينا تجربة شاهدة و هي حظر بث راديو (بي بي سي) بقرار من وزير الإعلام منذ العام 2010 نتيجة تجاوزها شروط الترخيص بفتح مكتب لها في جوبا دون الرجوع لوزارة الإعلام و لم يتم رفع الحظر إلا في العام 2019، نخلص من هذا إلا أن الجهة التي لديها حق الترخيص لديها حق سحبه.
و لكن، و لكي لا تستغل الحكومات حق التقييد و تتعسف في استخدامه، لا بد من أن يستند عملها إلي قانون، و يتاح للجهات المتضررة اللجوء للقضاء إما لإلغاء القرار نهائيًا أو لوقفه لحين انتظار قرار نهائي من محكمة مختصة.
ختاما أقول نحن بحاجة لحوار بناء بين الحكومة و أجهزة الإعلام للوصول لصيغة محددة تحفظ الأمن القومي للبلاد و تراعي سيادتها و توفر في الوقت نفسه لأجهزة الإعلام البيئة (المناسبة) للقيام بدورها مع ضرورة مراعاة الظروف الحالية التي تمر بها بلادنا.