
تُعد معركة تحرير الخرطوم من مليشيا الدعم السريع نقطة تحول مفصلية في المشهد السوداني، ليس فقط من منظور استعادة السيطرة على العاصمة، بل أيضًا من زاوية إعادة صياغة التوازنات العسكرية و السياسية في البلاد. فمنذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، تحولت الخرطوم إلى ساحة مواجهة بين الجيش السوداني و مليشيا الدعم السريع، التي سعت لاختطاف الدولة، مستفيدةً من دعم خارجي وغطاء داخلي من بعض الأحزاب. في هذا المقال نحاول نستعرض الشواهد و الدلالات لتحرير الخرطوم و الذي ربما يكتمل قبل وصول المقال إليكم علي اعتبار أن العسكريين لا يكشفون عن خططتهم لكن ما هو متاح من معلومات لم يتبقَّ إلا القليل.
يُعيد المشهد الراهن في الخرطوم إلى الأذهان لحظة تاريخية مفصلية شهدتها العاصمة في 26 يناير 1885، عندما اقتحم أنصار الثورة المهدية بقيادة الأمير (ود النجومي) المدينة، و أسقطوا الحكم التركي-المصري معلنين بداية مرحلة جديدة في تاريخ السودان. اليوم و بعد أكثر من قرن يشهد السودان معركة أخرى لتحرير الخرطوم، هذه المرة من قبضة مليشيا الدعم السريع، في معركة تحمل أبعادًا سياسية و عسكرية و أمنية مشابهة من حيث السياق الوطني و النتائج المتوقعة على مستقبل البلاد حيث يخوض الجيش معركة وجودية ضد قوة حاولت تغيير مسار الدولة بالقوة و فرض مشروع إقليمي لتفكيك البلاد.
نجح الجيش السوداني مدعومًا بالقوات النظامية الأخرى و المستنفرين، في فرض طوق عسكري محكم على العاصمة، في خطة اطلق عليها قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة ب “شرك أم زيردو” متبعًا إستراتيجية التطويق التدريجي و استنزاف متدرج أدت إلى تقليص نفوذ المليشيا في الخرطوم. و قد بدأ الزحف من ولاية الجزيرة التي استعادها الجيش مؤخرًا، ليصل إلى محيط العاصمة عبر المحاور الجنوبية و الشرقية متخذًا من شرق النيل نقطة انطلاق رئيسية في عمليات التحرير.
التطورات الأخيرة كشفت عن تقهقر واضح لمليشيا الدعم السريع، إذ سجلت انسحابات كبيرة لعناصرها لا سيما من المرتزقة الأجانب الذين بدأوا بمغادرة مواقع القتال. كما أن التقارير الميدانية تشير إلى انقسامات داخلية و تصدعات في بنيتها التنظيمية، انعكست على أدائها العسكري و فعاليتها القتالية، مما سهل عمليات الاختراق و السيطرة من قِبل القوات المسلحة.
استعادة الجيش للخرطوم بحري شكّل نقطة تحول رئيسية في مجريات العمليات العسكرية، نظرًا لموقعها الإستراتيجي، حيث تعتبر البوابة الشمالية للعاصمة، و تضم بنى تحتية حيوية أبرزها مصفاة الجيلي التي كانت تحت سيطرة المليشيا منذ أشهر. كما أن تأمين بحري يعني الحد من قدرة التمرد على تنفيذ عمليات إمداد أو إعادة تموضع و هو ما زاد من عزلتها داخل الخرطوم و دفعها نحو الانهيار الكامل.
بعد استعادة بحري باتت القوات المسلحة تقترب من تطويق المليشيا داخل الأحياء المتبقية في وسط و جنوب الخرطوم، حيث تشكل جسور سوبا و المك نمر و المنشية نقاط اشتباك حاسمة في المعركة. و في ظل هذا التطويق، يصبح استكمال تحرير العاصمة مسألة وقت خاصة مع تحركات الجيش في أحياء شرق الخرطوم بما في ذلك (الرياض و امتداد ناصر و المعمورة) مما يعزز الضغط على المليشيا.
لا يمكن النظر إلى معركة تحرير الخرطوم بمعزل عن التداعيات الإقليمية و الدولية، حيث أن انهيار مليشيا الدعم السريع سيشكل ضربة لمحاولات بعض القوى الإقليمية إعادة تشكيل المشهد السوداني عبر دعم الفصائل المسلحة، ما يحدث هذه الايام من تحركات ل(عبد العزيز الحلو) في جنوب كردفان يشير إلى أن هناك اتجاهات للمحافظة علي وضع الحرب لإشغال الجيش السوداني. حيث أنهم يدركون أن نجاح الجيش في استعادة الخرطوم سيعيد رسم خارطة النفوذ في المنطقة، كما أنه سيعزز من فرص استقرار السودان على المدى الطويل بجانب تهيئة المناخ السياسي للقوي الوطنية.
لذلك تحرير الخرطوم لا يعني بالضرورة نهاية الأزمة السودانية ، بل يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التحديات، أبرزها إعادة بناء مؤسسات الدولة ،و ضمان الأمن و الاستقرار و توحيد الجبهة الداخلية في مواجهة التدخلات الخارجية.
يحدثنا التاريخ عن عواصم كثيرة تم تحريرها بجيشها الوطني و استعادة سيادة الدولة. حيث شكل ذلك مراحل مفصلية في تاريخ الشعوب ، مثال “برلين و الكويت و كابل”، تُظهر هذه التجارب أن تحرير العواصم ليس مجرد حدث عسكري بل نقطة تحول في تشكيل المشهد السياسي و الاقتصادي و الأمني. في السودان، ينظر السودانيين لتحرير الخرطوم سيعيد رسم موازين القوى داخليًا، و يؤثر على العلاقات الخارجية خصوصًا في ظل التنافس الإقليمي و الدولي على النفوذ في البلاد. لذلك علي قيادة البلاد أن تمضي قدما في استكمال التحرير باستعادة الأمن، و تحقيق السلام، و حماية السيادة الوطنية، و تقديم مشروع وطني يجمع السودانين مع إسناد مهام المصالحات الاجتماعية لمؤسسات الدولة و المجتمع للوصول إلى بلد مستقر.
عليه فإن تحرير الخرطوم يعني ان يسترد النيل عافيته و تسرد البلاد ارادتها ، هذا ليس لأنها العاصمة فحسب بل لأنها الوطن ، الذي اجهض أبناؤه محاولات فرض المشروع الأجنبي بقوة السلاح. لذلك هذه اللحظة التاريخية تضع السودان أمام مسؤولية كبرى ، تتطلب تثبيت الأمن وتحقيق السلام بجانب مرحلة انتقالية يقودها الجيش، بوصفه المؤسسة الوطنية القادرة على حماية وحدة البلاد و منع الفوضى. فإن الاستقرار الدائم لا يتحقق بمجرد إنهاء التهديدات الأمنية، بل يحتاج إلى تأسيس أرضية سياسية راسخة و صلبة، و هو ما يستدعي منح الأحزاب و القوى الوطنية أجل طويل و فرصة واسعة للوصول إلى رؤية موحدة تُقدم مصلحة السودان على أي انتماءات ضيقة. لذلك يجب عدم استعجال الانتخابات إلى حين نضوج توافق وطني حقيقي بعيدًا عن الصراعات الصفرية لتجنيب البلاد سيناريوهات الاضطراب و الفوضى من جديد، بذلك نضمن تحول ديمقراطية قائم علي الوعي نضمن به الاستقرار و الأمن و تعزيز السيادة الوطنية. هذا هو وجه الحقيقة.
دمتم بخير و عافية.
الخميس 6 فبراير 2025 م. Shglawi55@gmail.com