
إن التاريخ العسكري مليء بالمعارك التي شكلت نقطة تحول في الحروب حيث لا تُحدد فقط نتائج المواجهة العسكرية، بل أيضًا مسار المستقبل السياسي و الجيواستراتيجي للدول. قد يستغرب البعض لماذا ذهبنا لهذه المقارنة بين معركة الفاشر و معركة ستالينغراد (1942-1943) إبان الحرب العالمية الثانية، كانت هذه المعركة نقطة تحول في الحرب بين ألمانيا النازية و الاتحاد السوفييتي، حيث شكلت انتصار السوفييت في ستالينغراد بداية انهيار الزحف النازي نحو الشرق. لذلك هذا يجعلها تشابه معركة الفاشر في كونها معركة مصيرية ينتظر أن تغير مسار الحرب في السودان، وسط تباين المواقف الدولية بين داعم و متحفظ. في هذا المقال نحاول تفكيك هذا المشهد بكل سيناريوهاته المحتملة للوصول لرؤية واضحة تجعلنا نقف على حقيقة المشهد السوداني.
مع تصاعد الأحداث في السودان تبرز مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، كنقطة ارتكاز للصراع القائم بين الجيش السوداني و مليشيا الدعم السريع. فالحصار المفروض على المدينة منذ أشهر، و الذي أدانه مجلس الأمن الدولي في يونيو 2024 يعكس ديناميت الحرب المتغيرة، حيث تحولت الفاشر إلى ساحة اختبار لمواقف القوى الإقليمية و الدولية تجاه الأزمة السودانية. في هذا السياق يبرز قرار مجلس الأمن الدولي الذي دعا إلى إنهاء حصار الفاشر في يونيو 2024 جاء بتأييد 14 عضوًا، مع امتناع روسيا عن التصويت، و هو ما يشير إلى تقاطع المصالح و تباين الحسابات الجيوسياسية بين الدول الكبرى فيما يتعلق بالسودان.
إقليمياً تشهد خريطة التحالفات حول السودان تحولات ملحوظة. فقد شهدت القاهرة الأسبوع الماضي زيارات متزامنة لكل من الرئيس الكيني (وليام روتو) و الجنرال الليبي (خليفة حفتر) ، ففي حين تمثل كينيا جزءًا من الوساطة الإقليمية عبر “إيغاد”، فإن موقفها المتشدد تجاه الدعم السريع يشير إلى رغبة في كبح جماح المليشيا في ظل مخاوف من تمدد نفوذها إقليميًا، أما حفتر الذي تربطه علاقات لوجستية بمليشيا الدعم السريع فقد تكون زيارته لمصر مؤشرًا على إعادة تقييم الدعم لهذه المليشيا خاصة مع تصاعد الضغوط الدولية ضدها. بجانب حدثت إدانات متعددة من دول التعاون الخليجي و الجامعة العربية و الأمين العام للأمم المتحدة لقصف المستشفى السعودي بالفاشر بواسطة مليشيا الدعم السريع ما يعكس حراكًا دبلوماسيًا قد يكون مرتبطًا بإعادة تموضع القوى الإقليمية تجاه الأزمة السودانية .
من ناحية أخرى تلعب تشاد دورًا محوريًا في المشهد، إذ توفر عمقًا استراتيجيًا للمليشيا، سواء عبر الحدود أو من خلال الدعم اللوجستي، فيما تستمر أبوظبي في دعم المليشيا عبر الإمداد العسكري و التمويل بحسب “وول ستريت جورنال” الأميركية ما يعكس تداخلاً إقليميًا معقدًا في الأزمة.
لذلك تمثل الفاشر اليوم نموذجًا لصراع الإرادات في السودان. فمن جهة فإنها المدينة الوحيدة في دارفور التي لم تسقط في يد الدعم السريع، ما يجعلها رمزًا للصمود في وجه مشروع السيطرة الكاملة للمليشيا على الإقليم. و من جهة أخرى فإن معركة الفاشر تُعتبر اختبارًا عمليًا لنظرية تقسيم السودان، حيث يرى بعض المراقبين أن استمرار الحرب حول الفاشر قد يكون جزءًا من سيناريو إعادة رسم خارطة البلاد، عبر فرض أمر واقع يؤدي إلى فصل دارفور كدولة مستقلة تحت سيطرة المليشيا، مع ضمان مصالح بعض الدول الإقليمية مثل مصر التي قد تحصل على ترتيبات أمنية على حدودها الجنوبية في إطار هذا السيناريو.
هذا الاحتمال تدعمه بعض التحركات الدبلوماسية و التصريحات الغربية غير المباشرة. في حال تحقق هذا السيناريو، فإن التأثير الإقليمي سيكون بالغ الخطورة قد يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة برمتها، خاصة أن دارفور تتمتع بتركيبة سكانية معقدة تشهد صراعات تاريخية بين المكونات العربية و غير العربية. سيشكل أيّ انفصال تهديدًا مباشرًا للسودان الموحد و سيدفع نحو تحولات جذرية في الموازين السياسية. الخطورة كذلك أنها لن تكون دولة لأهلها و إنما لعربان الشتات الذين يبحثون عن وطن، كما أنها سوف تكون مهدد إقليمي لجميع دول أفريقيا شمال الصحراء باعتبارها قوات تحت الطلب لم تألف حياة الاستقرار بجانب أن حركات دارفور المسلحة التي تعبر عن الإقليم لن ترضي بهذا المهدد الوجودي.
علي المستوى السياسي فإن الصراع داخل تنسيقية القوى المدنية (تقدم) يعكس بوضوح حجم الانقسامات داخلها بشأن التعاطي مع الأزمة. ففي حين تتمسك قيادتها بعدم تشكيل حكومة موازية ترى قيادات أخرى داخلها أن وجود كيان سياسي في دارفور ضروريًا لملء الفراغ الإداري في الإقليم، خاصة في حال سقوط الفاشر. هذا التباين يكشف عن انقسام أعمق في الموقف السياسي تجاه التعامل مع الأزمة، حيث يخشى البعض أن يؤدي أي توجه لحكومة بديلة إلى تقنين واقع التقسيم. بالمقابل ترى كتلة الأحزاب الوطنية الداعمة للجيش و علي رأسها تيار الإسلاميين أن الحديث عن سقوط الفاشر أو انفصال دارفور بمثابة مؤامر دولية علي السودان و أن أهل السودان متمسكون بوحدة بلادهم و بخيارهم في دحر مليشيا الدعم السريع من آخر شبر في البلاد.
على المستوى العسكري، يدرك الجيش السوداني أن فك حصار الفاشر يمثل أولوية استراتيجية، ليس فقط لحماية سكان المدينة، و لكن أيضًا لإجهاض مشروع التمرد في دارفوررحيث تشكل الفاشر نقطة تحول حاسمة في الحرب الجارية. فالمدينة التي صمدت أمام مليشيا الدعم السريع لأكثر من ثمانية أشهر، و واجهت أكثر من 180 محاولة اقتحام باتت رمزًا للصمود الوطني. و مع تصاعد الدعوات لفك الحصار عنها، تتجه الأنظار نحو الجيش السوداني و القوات المشتركة و المقاومة الشعبية التي تستعد لشن عمليات عسكرية واسعة النطاق لاستعادة السيطرة الكاملة على دارفور.
عليه و بحسب ما نراه من وجه الحقيقة فإن الأزمة السودانية دخلت مرحلة إعادة تموضع إقليمية ودولية، حيث تسعى بعض القوى إلى إعادة ترتيب المشهد بما يخدم مصالحها، بينما يعمل الجيش السوداني علي بسط السيطرة و استعادة الأمن. و في ظل هذا المشهد المتشابك، يبقى السؤال الأهم: هل ستظل الفاشر صامدة حتى تكون مقبرة للتمرد أم ستتحول إلى نقطة انطلاق لمشروع تقسيم السودان؟.
دمتم بخير و عافية.
السبت 1 فبراير 2025م. Shglawi55@gmail.com