وجه الحقيقة … المبادرة التركية في سياق ترتيبات منطقة الشرق الأوسط .. بقلم/إبراهيم شقلاوي

في مقالنا السابق تناولنا الفرص والتحديات التي قد تواجه المبادرة التركية في السودان لكن اليوم دعونا نوسع الرؤية و نتعمق أكثر في أبعاد المبادرة في ضوء التقدم العسكري الكبير الذي حققه الجيش السوداني على الأرض. كيف يمكن أن تُبنى المبادرة التركية؟ و ما هي مطالب السودان المحتملة نظير نجاح هذه المبادرة؟ هل جاء توقيت المبادرة في مكانه أم أنها تأخرت؟ و كيف يمكن للبعد الاستراتيجي أن يسهم في تحقيق السلام و الأمن في السودان و مرحلة جديدة من الاستقرار؟
لنأخذ هذه التساؤلات في الاعتبار. في البداية يجب أن نؤكد على نقطة أساسية؛ الوساطة لا تتعلق بتعطيل العمليات العسكرية بل يجب أن تتسق معها. ما حدث مؤخراً يشير إلى أن الحكومة السودانية قد خططت بعناية لفصل الخطاب العسكري عن الخطاب السياسي، لذلك من المتوقع أن تستمر العمليات العسكرية وفقاً للخطط الموضوعة، وبالتوازي مع ذلك قد تكون هذه الانتصارات العسكرية عاملاً رئيساً في نجاح الوساطة التركية. بفضل هذا التقدم العسكري، ستكون الحكومة السودانية أكثر قدرة على وضع شروطها الخاصة في أي محادثات مقبلة بما في ذلك دفع الإمارات للتراجع عن دعم المليشيا.
من المهم أيضاً التفريق بين المفاوضات المباشرة مع الميليشيات أو الوساطات التي تُجرى في القاهرة أو جدة، و هذه لا تعني إعادة إحياء الميليشيات، بل على العكس تهدف إلى إنهاء تمردها و إعادة استقرار الدولة السودانية. الجيش السوداني يواصل العمل على إنهاء التمرد، والدبلوماسية تعمل جنباً إلى جنب لتحقيق نفس الهدف، و هو إنهاء التمرد بشكل كامل و عدم السماح للمليشيات بأن تصبح جزءاً من المعادلة السياسية أو العسكرية المستقبلية. هذه هي الغاية الأساسية و لن تتحقق إلا عبر مسارين متوازيين: العمل العسكري و التفاوض السياسي.
و في هذا السياق يبرز الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان حيث عرض أردوغان الوساطة التركية بين السودان و الإمارات. هذا الاتصال كان محورياً و مهماً، إذ أكّد الرئيس التركي على دعم بلاده المستمر للسودان، و شدد على أهمية الحفاظ على وحدة البلاد و استقرارها و منع تقسيمها، كما تم التأكيد على ضرورة تعزيز التعاون في مجالات الزراعة، والتعدين، وتقديم المساعدات الإنسانية و استئناف الرحلات الجوية التركية إلى السودان قريباً.
إذا نظرنا عن كثب إلى مضمون الاتصال الهاتفي بين أردوغان و البرهان سنجد أن له أبعاداً استراتيجية مهمة؛ في هذا الاتصال تم التأكيد على أن الإمارات هي اللاعب الأساسي في حرب السودان، و أنها هي المسؤولة عن كثير من الأحداث المؤلمة التي عانى منها الشعب السوداني. كما أن المبادرة التركية تؤكد أن قرار إيقاف الحرب بيد الإمارات و ليس الميليشيات أو أي طرف آخر. هذا يعني أن المبادرة التركية لا تتعلق بوقف الحرب فحسب، بل أيضاً بتحديد المسؤوليات الإقليمية و توجيه ضغوط على الإمارات لسحب دعمها للمتمردين.
كما نعلم تركيا تعد لاعباً محورياً في السياسة الإقليمية و الدولية، و لديها من القدرة الاقتصادية و السياسية ما يجعلها مؤهلة للعب دور الوسيط الفاعل في السوداني. فعلى سبيل المثال استطاعت تركيا تحقيق نجاحات هامة في المنطقة مثل دعم المعارضة السورية في مواجهة نظام الأسد، و هو ما عزز من مكانتها في المنطقة و أدى إلى تزايد نفوذها. بالإضافة إلى ذلك تركيا لديها القدرة على التوسط في النزاعات الإقليمية بشكل فعال كما شاهدنا في وساطتها بين الصومال و إثيوبيا. يُعد موقف الرئيس التركي أردوغان في دعم الشعب السوداني أحد العوامل المساعدة في نجاح الوساطة كما اشرنا في المقال السابق.
على الرغم من الفرص التي تتيحها المبادرة التركية إلا أن هناك العديد من التحديات التي تواجهها خاصة فيما يتعلق برفض بعض الأطراف الداخلية و الخارجية لهذه الوساطة، مثال ذلك قد تواجه الحكومة السودانية صعوبة في إقناع الجبهة الداخلية بأن التفاوض مع الإمارات ليس تنازلاً عن المبادئ و هنا أعني الحسم العسكري الذي يعد الخطوة الاستراتيجية لتحقيق السلام كما هو معروف في الحروب، هذا بالنظر إلى أن الإمارات تفاوض من موقع ضعف بعد فشل استراتيجياتها في السودان مما قد يعقد المفاوضات و يستدعي تأكيد الشروط السودانية.
من جانب آخر تلعب مصر دوراً استراتيجياً في هذه الوساطة المحتملة نظراً لعلاقاتها التاريخية مع السودان و قدرتها على التأثير في مختلف الأطراف الإقليمية و الدولية. لذلك التنسيق المصري التركي في هذا الملف يمكن أن يعزز من فرص نجاح الوساطة ويضمن مصالح السودان في أي تسوية سياسية.
عليه و لتجنب التحديات و ضمان تحقيق مصالح السودان في إطار هذه الوساطة، يجب على الحكومة السودانية أن تتخذ عدة خطوات مهمة أولها إقناع الجبهة الداخلية بأن التفاوض ليس تنازلاً بل خطوة ضرورية لتحقيق الاستقرار، ثانياً ينبغي للحكومة التفاوض من موقع قوة من خلال فرض شروط صارمة على الإمارات بما في ذلك تعويضات مادية و ضمانات بعدم التدخل في الشأن السوداني مستقبلاً و أخيراً التنسيق مع مصر و تركيا يضمن تمثيل المصالح السودانية في أي تسوية محتملة.
بناءً على هذه المعطيات و بحسب ما نراه من وجه الحقيقة يمكن القول إن المبادرة التركية تمثل فرصة حقيقية للسودان بشرط أن تظل الحكومة السودانية صلبة في شروطها و أن تستغل الدعم الإقليمي و الدولي لصالحها. إذا تم التعامل مع هذه المبادرة بحكمة يمكن أن تكون خطوة هامة نحو إنهاء الحرب و تحقيق السلام في السودان، مما يمهد الطريق لاستقرار سياسي و اجتماعي يعزز من مكانة السودان في محيطه الإقليمي و الدولي، و يجعله متسقاً مع ترتيبات خفض التوتر و كفكفة الحروب في منطقة الشرق الأوسط.
دمتم بخير و عافية.
الأحد 15 ديسمبر 2024 م. Shglawi55@gmail.com