
في الفلسفة الوجودية يعرض الفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر” مفهومًا محوريًا حول معنى الوجود. يبين سارتر أن الأفعال الإنسانية هي ما يعكس جوهر الكائن، حيث لا تكمن قيمة الفرد في الشهرة أو الاعتراف الاجتماعي، بل في الفعل نفسه. من هذا المنطلق كان هؤلاء “المجهولون” في السودان، الذين ظلوا يعملون في الظل بعيدًا عن الأضواء، يجسدون الفعل ذاته للانتصار لقيمهم و أفكارهم. لم يسعوا للمديح أو المكافآت، بل كانوا يدركون تمامًا أن أفعالهم كانت حجر الزاوية في استمرار الحياة في البلاد رغم التحديات.
منذ اندلاع الحرب في السودان في منتصف أبريل 2023، على يد مليشيا الدعم السريع و داعميها، وجد الشعب السوداني نفسه محاصرًا بين شبح الحرب و المخاوف من تفكك الدولة. في هذه الفوضى، كان هناك من بدأ يعمل في الخفاء لامتصاص الصدمة، و المحافظة علي الدولة بتقديم الخدمات الأساسية التي تمنح الأمل للمواطنين و تساهم في استمرارية الحياة اليومية.
بينما كانت أعين العالم معلّقة على أخبار الحرب ظلّت هناك قوة خفيّة تعمل في صمت كأنهم يفعلون خطة للطوارئ، بعيدًا عن أضواء الإعلام و عدسات الكاميرات. رجال و نساء لا تُذكر أسماؤهم في التقارير الرسمية، و لا تُرفع صورهم في نشرات الأخبار، لكنهم كانوا الحلقات غير المرئية التي حافظت على استمرارية الحياة. هم من ضمنوا شبكة الإتصالات و إمداد الكهرباء للخرطوم و بعض الولايات، بجانب إتاحة إمداد دقيق الخبز، و خدمات المياه و قدرة المستشفيات.
تقارير محلية و أخرى إقليمية أشادت بصمود مستشفى (البلك) للأطفال و مستشفى (النو)، اللذين واصلا تقديم الخدمة رغم الحصار و الاستهداف الممنهج من قبل مليشيا الدعم السريع. لم يكونوا جنودًا في الميدان، لكنهم كانوا خط الدفاع الأخير عن بقاء الدولة. لقد آمنوا بأن مواجهة الفوضى لا تكون فقط بالسلاح، بل بالتنظيم والانضباط والمسؤولية. فحين كانت الحرب تُهدد حياة الناس، كانوا هم من يمنعون الانهيار، يؤدون أدوارهم في صمت، لأنهم يدركون أن استمرار الحياة من أبلغ رسائل الصمود، وأن الوطن يحتاج أولئك الذين لا ينتظرون شكرًا من أحد.
كانوا يعملون في تنسيق دقيق و في بيئة مليئة بالمخاطر، يتعاملون مع تحديات أمنية و سياسية معقدة في صمت و خطر. و لكن عزيمتهم كانت أكبر من أي تهديد، لأنهم أدركوا أن استقرار الوطن و حماية المدنيين تتطلب التضحية و الصبر و العمل في الظل بعيدًا عن الأضواء.
ليس هذا فحسب، بل إن هؤلاء الأبطال المجهولين لعبوا دورًا خفيًا في إدارة الإعلام و توجيه الرأي العام نحو البناء. كذلك كانوا حضورا في استنهاض الشباب السوداني و تحفيزهم على المشاركة الفاعلة في حماية البلاد. فبالرغم من الظروف الاستثنائية، كانوا على تماس مع الواقع على طريقتهم التي تدربوا عليها و خبروها، يساعدون في الوعي الوطني، ويعملون على دعم المواطنين. كانوا يزرعون الأمل في النفوس، ويُحفزون على الحفاظ على الأمن.
لا شك أن هؤلاء المجهولين كانوا يمثلون الوجود الفعلي الذي تحدث عنه سارتر. كانت أفعالهم هي المعيار الحقيقي لوجودهم، وليس الشهرة أو الاعتراف. لقد عملوا بحب لهذا الوطن لا لأجل الدنيا والمجد بل لأجل الدين والقيم من أجل إبعاد شبح الفوضى عن أرض السودان، في وقت كانت فيه الدولة في أقصى درجات ضعفها. لم يكن هدفهم البحث عن التقدير، بل هدفهم كان الحفاظ على وحدة البلاد واستمرار الحياة في أصعب اللحظات.
هؤلاء “المجهولون” اتخذوا من التخطيط الاستراتيجي و التنفيذ المبدع وسيلة لتقديم الخدمات الأساسية للمواطن السوداني، حينما كانت الحرب تلتهم الجغرافيا و الموارد. و كانت الخطط الأمنية و العسكرية بين التدبير و الانتصار، أصبحنا نرى، ربما لأول مرة في تاريخ الحروب الحديثة، استمرارية الخدمات والتوسع في الزراعة بحسب التقارير الدولية، بمستوى يفوق فترة ما قبل الحرب.
قد لا نعرفهم بأسمائهم، لكن أثرهم باقٍ في نبض الحياة التي قاومت الانهيار. لم يظهروا في الاجتماعات، ولم تسلط عليهم الأضواء، لكنهم حضروا حيث غاب الجميع، و تقدّموا حين تراجع غيرهم. لم يكن دافعهم الطموح الشخصي و لا العائد السياسي، بل قناعة راسخة بأن الوطن لا يحتمل الغياب. لقد أدركوا بحدس فطري و مسؤولية أخلاقية و فكرية كما “عرفتهم”، أن بقاء الدولة لا يكون فقط عبر الجبهات العسكرية في ميادين القتال وحده ، بل في استمرار تقديم الخدمات، و تعزيز روح التماسك و التنظيم داخل المجتمع.
و رغم غيابهم عن الأضواء، إلا أنهم رسموا مشهدًا عميقًا و فاعلاً لإنقاذ البلاد. قد لا تُروى أسماؤهم في المجالس، لكن التاريخ سيخلّد أثرهم، فقد خلّفوا وطنًا منتصرًا، يملك القدرة على النهوض من بين الركام. و كما نرى من وجه الحقيقة، فإن إخلاصهم للدين و الوطن سيبقى جزءً أصيلاً من ذاكرة السودان. لن تُنسى تضحياتُهم، لأنها كانت حجر الأساس في الحفاظ على الوطن و مفتاحًا لبناء الدولة السودانية التي بدأت تستعيد عافيتها.
دمتم بخير و عافية.
الثلاثاء 8 أبريل 2025 م Shglawi55@gmail.com