وجه الحقيقة .. بحيرة سد النهضة و مأزق التحوطات السودانية .. بقلم/ إبراهيم شقلاوي

في خضم تصاعد النقاشات الفنية و السياسية حول سد النهضة، تبرز تطورات ملف بحيرة السد كمؤشر إستراتيجي بالغ الأهمية يستدعي من السودان قراءة متأنية و تحوطًا فنيًا دقيقًا، لا سيما في ظل التصريحات و التحذيرات المتداولة التي تتقاطع فيها المعطيات العلمية مع الرسائل السياسية.
أحدث ما أُثير في هذا السياق جاء على لسان أستاذ الجيولوجيا و الموارد المائية بجامعة القاهرة الدكتور عباس شراقي، بحسب موقع “نبض السودان الإلكتروني”، حيث حذّر من تأخر فتح بوابات سد النهضة، مشيرًا إلى اقتراب موسم الأمطار، و عدم قدرة التوربينات على العمل نتيجة انخفاض الإيراد المائي في أبريل، و الذي يُقدَّر بنحو 12 مليون متر مكعب يوميًا فقط و هي كمية لا تكفي لتشغيل توربين واحد لساعات طويلة.
لكن في المقابل، تبرز معطيات فنية أخرى تستدعي مراجعة دقيقة؛ إذ تشير بيانات الرصد إلى انخفاض منسوب بحيرة سد النهضة بأكثر من خمسة أمتار خلال الفترة الماضية نتيجة تمرير المياه عبر التوربينات، مع استمرار وارد النيل الأزرق عند معدلات مرتفعة تجاوزت 45 مليون متر مكعب يوميًا، و لم تنخفض عن 35 مليون حتى الآن. و هي أرقام تُضعف فرضية توقف التوربينات بالكامل، وتُثير تساؤلات حول دقة بعض ما يُتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
هذه التناقضات تضعنا أمام معضلة التحقق: هل ما يُقال مجرد تقديرات فنية محايدة ؟ أم رسائل إعلامية ذات طابع سياسي تمرّر عبر قنوات “خبراء” لخدمة أجندات تفاوضية وسياسية في ظرف إقليمي بالغ التعقيد ، لا يحتمل المجازفة بمصالح السودان أو التعامل مع الملف استنادًا إلى بيانات غير موثقة؟
المؤكد في هذا السياق، ووفقًا لتصريحات شراقي ذاته، أن إثيوبيا تحتفظ حاليًا بنحو 60 مليار متر مكعب من المياه في بحيرة السد، بعد أن بلغ التخزين ذروته عند منسوب 638 مترًا في سبتمبر 2024. ومع اقتراب موسم الأمطار، باتت أديس أبابا مضطرة لتفريغ نحو 20 مليار متر مكعب لاستقبال فيضان النيل الأزرق.
غير أن وزير الري السوداني السابق، الدكتور عثمان التوم حمد، “أبدى تحفظه على هذا الاحتمال، متوقعًا أن تطلق إثيوبيا فقط 5 مليارات متر مكعب عبر التوربينات خلال الشهرين المقبلين، بنفس المعدل اليومي الحالي، ما يعني عدم وجود خطر مباشر على السودان. موكدًا أن هذا القدر يكفي لتغطية الاحتياجات المائية بل يعتبر وضعًا مائيًا مريحًا خلال الشهور الاربعة القادمة لكل من السودان و مصر. و أضاف بان هناك برنامج تشغيلي متعلق بخزان الروصيرص تم إعداده للتأكد من عدم وجود أي خطورة”.
لكن بحسب المتابعة من المهم الإشارة إلى أن أي تصريف مفاجئ و غير منسق قد يؤدي إلى ارتفاع حاد في منسوب النيل الأزرق، و هو ما ظل السودان يُحذر منه، لا سيما في ظل التفاوت بين الطاقة القصوى لتصريف سد النهضة (31,000 م³/ث) وسد الروصيرص بعد التعلية (23,000 م³/ث)، ما يُنذر بحدوث فائض كارثي (Overflood) في سد الروصيرص ما لم تُتخذ احتياطات هندسية صارمة وفورية.
هذا الواقع يجعل الحديث عن إنشاء “مفايض طوارئ” في بحيرة الروصيرص خيارًا استراتيجيًا، لا ترفًا هندسيًا. ووفقًا للمعطيات، فإن الفرق البالغ 8,000 م³/ث بين قدرات التصريف في السدين يجب أن يُدار ضمن خطط التحوط الوطني السوداني، بعيدًا عن التطمينات الخطابية والتقديرات غير الدقيقة.
و إذا كانت تصريحات الدكتور شراقي قد اتسمت بقدر من التحليل التفصيلي، فإنها تستوجب في ذات الوقت تنبيهًا مهنيًا: ليس كل ما يُقال يُعتمد عليه كما هو. فبعض الرسائل، و إن بدت علمية، قد تنطوي على أهداف تفاوضية أو حسابات تتجاوز حدود الخبرة إلى التأثير السياسي على القرار السوداني. و هنا تتعاظم أهمية وجود صوت علمي سوداني واضح، يواكب تطورات السد لحظة بلحظة، و يشرح للرأي العام ما يجري، و يطمئن صناع القرار و المواطنين ببيانات دقيقة و محدثة.
في هذا الإطار، تبرز أهمية تنسيق الأدوار بين السودان ومصر إثيوبيا، لضمان تعزيز المصالح الاستراتيجية المشتركة، لاسيما في ظل إعلان مبادئ سد النهضة الموقع في الخرطوم عام 2015، و الذي أقر مبادئ التعاون، و عدم التسبب في الضرر، و تبادل المعلومات و التسوية السلمية للنزاعات. و قد أثبت الإعلان، رغم تحديات تنفيذه، أن إمكانية التوافق متاحة متى ما توفرت الإرادة السياسية و الرؤية المشتركة.
و يكتسب هذا التنسيق أهمية مضاعفة اليوم، في ضوء اللقاءات المتتالية بين الأطراف الثلاثة، لا سيما اللقاءات الأخيرة التي جمعت السودان بكل من إثيوبيا و مصر، و التي أكدت ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن ملء و تشغيل السد. فالحفاظ على الاستقرار الإقليمي و تعزيز فرص التنمية المستدامة في حوض النيل مرهونان بجدية هذا التنسيق، و بقدرة الدول الثلاث على تجاوز الخلافات الظرفية، و العمل بروح شراكة تستحضر حجم التحديات و المصالح الحيوية المرتبطة بالمياه و الأمن والسيادة.
و ختامًا، فإن ما نراه من وجه الحقيقة يُشير إلى أن السودان –في ظل الحرب الراهنة و تحديات السيادة المائية– مطالب بأكثر من مجرد الاستماع إلى الآخرين؛ عليه أن ينتج المعرفة، و يرصد الحقائق بمنهج وطني خالص، و يقيم حساباته استنادًا إلى معايير علمية وسيادية، خصوصًا حين تكون المسألة على هذا القدر من الحساسية، كما هو الحال في ملف سد النهضة. فالسد ليس مجرد مشروع مائي، بل هو مشروع جيوسياسي تتقاطع فيه مصالح الدول، و تتباين فيه نوايا الحلفاء و الخصوم على حد سواء. و لهذا، فإننا نجدد الدعوة إلى أهمية تكامل الأدوار لتعزيز الفوائد و تقليل المخاطر.
دمتم بخير و عافية.
الأحد 13 أبريل 2025م Shglawi55@gmail.com