
تظل الشعوب الناجحة هي التي تستفيد من قراءة التاريخ و تتدبّر العبر. كما نذكر ، خلال الحرب الأهلية اللبنانية “1975-1990” نشأت حكومات موازية و ميليشيات متنافسة بدعم إقليمي و دولي مما أدى إلى تآكل السلطة المركزية و تفكيك الدولة اللبنانية. و في ليبيا أيضاً بعد عام (2011) تأزمت الأوضاع بشكل مشابه، حيث نشأت حكومتان موازيتان: حكومة الوفاق الوطني بقيادة (فايز السراج) و حكومة (خليفة حفتر) كان ذلك مظهر من مظاهر الصراع علي السلطة و النفوذ مدعوم من أطراف إقليمية و دولية ظلت متحكمة في سيادة البلاد.
اليوم في السودان ربما يعيد التاريخ نفسه؛ إذ تشهد البلاد منذ منتصف أبريل من العام الماضي حرباً طاحنة بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان رأس الدولة ،الذي يسعى لاستعادة الأمن و تحقيق السلام، و مليشيا الدعم السريع بقيادة (محمد حمدان دقلو)، التي حاولت الانقلاب على نظام الحكم في أبريل “2023” بدعم إقليمي و إسناد من بعض القوى السياسية دخلت البلاد بعدها في مرحلة انقسام سياسي عميق. خلال هذه الفترة، حقق الجيش السوداني ،مسنوداً بقوى الأحزاب الوطنية و الشباب السوداني، انتصارات واسعة في جبهات القتال، مما أفقد المليشيا الأمل في الانتصار و السيطرة على الدولة.
دفعها ذلك إلى محاولة تشكيل حكومة موازية في المناطق التي تسيطر عليها، ما يهدد استقرار السودان و يزيد من تعقيد المشهد السياسي. من خلال الدروس المستفادة من التجارب المذكورة في لبنان وليبيا يمكننا أن تطرح تساؤلات هامة حول تأثير التدخلات الإقليمية على استقرار المنطقة ومستقبل وحدة الدولة السودانية، في وقتٍ تتداخل فيه المصالح الإقليمية والدولية لتزيد من تعقيد الأوضاع. فكرة الحكومة الموازية أو نزع الشرعية ظلت على الدوام جزءًا من أدبيات تنسيقية القوى المدنية “تقدم”، باعتبارها حلاً لمواجهة الحكومة السودانية الحالية التي يصفونها بأنها “حكومة الأمر الواقع”. بالرغم من أن العالم يقر هذه الشرعية و ظل يتعامل معها و يحفظ لها كافة الحقوف كممثل للشعب السوداني لكن تظل فكرة الحكومة الموازية تثير تساؤلات حول دوافعها و تأثيراتها على المشهد السياسي السوداني، و حظوظ نجاحها في تحقيق الاستقرار.
كما نعلم منذ سقوط نظام عمر البشير في (2019)، دخل السودان في مرحلة انتقالية معقدة و مشُوبة بعدم الاستقرار. و رغم التوصل إلى اتفاقات سياسية خلال هذه الفترة بين العسكريين و المدنيين، ظلت أطماع القوى السياسية “قحت” التي سيطرت على مشهد التحول الديمقراطي تمنع أي مشاركة من بقية القوى السياسية الأخرى، بحجة أن ذلك فيه “إغراق للعملية السياسية”. حيث فرضت لاحقاً ما عرف بدستور المحامين و الاتفاق الأطاري في محاولة لاختطاف الدولة السودانية دون تفويض انتخابي من الشعب، هذا الوضع مهد الطريق لاندلاع الحرب بين الجيش و المليشيا في منتصف أبريل من (2023).
في خضم هذه الحرب، طرحت قوى “تقدم” فكرة تشكيل حكومة في المنفى كوسيلة للتحدي السياسي ضد الحكومة السودانية القائمة. كانت الفكرة تهدف إلى تعزيز الاعتراف الدولي بها كمعارضة سودانية في أي تسوية محتملة بجانب توسيع نطاق الضغط على الجيش السوداني للقبول بحل سياسي يعيد المليشيا و داعميها للمشهد السياسي من جديد لكن سرعان ما أُحبطت هذه الفكرة بفعل تقدم الجيش مسنوداً بالمقاومة الشعبية في جميع المحاور و جبهات القتال.
بالرغم من الدعم الذي لاقته فكرة تشكيل حكومة في المنفى من بعض القوى السياسية، شهد التحالف “تقدم” نفسه انقساماً داخلياً حول جدوى هذه المبادرة. ترى بعض الفصائل أن الحكومة الموازية قد تمثل أداة ضغط استراتيجية على الحكومة العسكرية و هذه تمثلها مجموعة (الطاهر حجر) و (الهادي إدريس) و مجموعات أخري من داعمي المليشيا داخل “تقدم”، بينما تعارضها قوى أخرى ،مثل حزب الأمة القومي و المؤتمر السوداني، معتبرةً أنها تعمق فكرة انقسام البلاد و لا تمتلك قاعدة شعبية كافية لدعمها.
بالمقابل تظل التحديات الإقليمية و الدولية شاخصة أمام هذا المشروع، على المستوى الإقليمي، فإن بعض الدول قلّصت دعمها لمليشيا الدعم السريع خاصة مع زيادة الانقسامات داخل قيادتها. أما على المستوى الدولي فليس هناك أدني احتمال للاعتراف بها، حيث بدأ التشكيك في قدرة هذه الحكومة الموازية على إدارة شؤون البلاد بالنظر للانتهاكات الواسعة المرتكبة بواسطة المليشيا في حق المدنيين في دارفور و قري شرق الجزيرة و الخرطوم، عليه و في ظل التحديات السياسية الداخلية و الضغوط الخارجية، تظل فكرة تشكيل حكومة موازية خياراً سياسياً غير عملي، لكن كما يبدو قابل للإعلان و ليس التنفيذ باعتباره ربما يمثل ورقة ضغط يمكن التفاوض عليها مستقبلاً في حال الذهاب لعملية سياسية بالنظر الي خطة الداعمين الإقليميين للمليشيا و ذراعها السياسي بالإبقاء عليهم داخل المشهد السياسي السوداني تحت أي لافتة أو عنوان. هذا الواقع المجافي للوطنية و حفظ البلاد من التدخلات الخارجية يزيد من تعقيد المشهد السوداني، و يطيل أمد الحرب ما لم ينجح الجيش في بسط سيطرته الكاملة علي البلاد و يستعيد الأمن والسلام للسودانيين.
عليه و بناء علي ما نراه من وجهة الحقيقة، فإن فكرة تشكيل حكومة مدنية موازية في مناطق سيطرة مليشيا الدعم السريع تعكس حالة الانقسام و التشظي داخل المشهد السوداني لا سيما داخل “تقدم” التي هي الآن حائرة بين خيار دعم قيام هذه الحكومة و الانحياز لها و تبني برنامجها وفقاً لإعلان المبادي الذي وقعته مع المليشيا في أديس أبابا في فبراير الماضي، أو الانسحاب من إعلان المبادئ الذي لم تلتزم المليشيا بأي من بنوده المتعلقة بحماية المدنيين أو فتح الممرات الإنسانية لكنها التزمت بقيام سلطات مدنية في مناطق نفوذها و آخرها فكرة قيام هذه الحكومة السراب.
دمتم بخير و عافية.
الأحد، 22 ديسمبر 2024م
Shglawi55@gmail.com