وجه الحقيقة … (كلينق مبارينا يفتش الرمة): وقائع إستلام معسكر .. بقلم/ إبراهيم شقلاوي

في تطور عسكري بارز تمكنت القوات المسلحة السودانية بالأمس من فرض سيطرتها الكاملة على مدينة بحري بعد سلسلة من العمليات القتالية التي شهدت فك الحصار عن سلاح الإشارة و القيادة العامة و طرد المليشيا من مصفاة الجيلي، و كان أبرزها بعد ذلك استعادة معسكر القوات المحمولة جوًا (المظلات) ب(شمبات)، و هو أحد أهم المقرات التي كانت تستخدمها مليشيا الدعم السريع. شكل ذلك الحدث لحظة فارقة من انتقالات الحرب، حين رفع الجنود تمام استلام المعسكر إيذانًا باستعادة السيطرة على أحد المعاقل التاريخية بعد معركة ضارية أثبتت خلالها الجيش قدرته على الدفاع عن السيادة الوطنية و استعادة السيطرة. في هذا المقال نتناول هذا الحدث المهم و دلالاته لدي العسكريين و أهل السودان قاطبة.
ظهر ذلك من خلال مقطع فيديو متداول على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث وثّق لحظة مؤثرة لجنود الجيش بعد معركة شرسة، بزيّ معفر بالتراب و آثار القتال بادية عليهم، بملامح تعكس الفخر و الاعتزاز و هم يؤدون التحية لقائد العملية داخل المعسكر بكلمات محدودة “تمام سيادتك القوة الموجودة بالطابور كذا التوزيعات كذا الشهداء كذا لا خسائر”. ذلك الإجراء لم يكن مجرد تقليد عسكري، بل رسالة على بسط هيبة الجيش على المكان. أما لحظة رفع العلم حيث صعود ذلك الجندي بتلك الخفة و الثقة، فقد جسدت الانتماء و الوفاء للوطن و للمؤسسة العسكرية التي ظلّت صمام أمان الدولة و سيادتها.
لم تكن معركة استعادة معسكر المظلات مجرد عملية عسكرية روتينية، بل مثلت اختبارًا حقيقيًا لقدرة الجيش السوداني على تنفيذ عمليات معقدة في بيئة حضرية ضمن إطار حرب المدن، وسط بنية تحتية استخدمتها مليشيا الدعم السريع كمعاقل دفاعية، بل كانت جزءً من معركة أكبر لفرض الأمن و الأمان و إظهار الولاء للوطن و الجيش. فهذا المعسكر الذي يمثل رمزًا لتاريخ القوات المحمولة جوًا في السودان، لم يكن مجرد موقعًا استراتيجيًا، بل كان شاهدًا على عقود من بناء جيش وطني محترف. لقد سعت المليشيات للاستيلاء عليه و تحويله إلى قاعدة إمداد لوجستي، و وحدة علاجية متطورة و منظومة قيادة و سيطرة و اتصال شبكي معقدة التشويش على إحداثيات الطيران، استعادة الجيش له تأكيد على هذه المؤسسات الوطنية لا يمكن أن تسقط في أيدي الخونة الخارجين عن القانون.
في تعريف مختصر يقع معسكر سلاح المظلات في مدينة بحري عند مدخل جسر (شمبات) من الناحية الشرقية ، و هو قاعدة تاريخية كانت تتبع للقوات المسلحة قبل أن ينتقل إلى مليشيا الدعم السريع. تأسس سلاح المظلات في السودان خلال عهد الفريق إبراهيم عبود لمواجهة تحديات التمرد في الجنوب، حيث تم تدريب أولى دفعاته في بريطانيا عام 1962. توسعت وحداته لاحقًا ليشمل لواء المظلات و الصاعقة و الاقتحام الجوي، يتكئ هذا السلاح علي خبرات راسخة و مشاركات فعالة في العمليات داخل السودان و خارجه مثل حرب أكتوبر 1973 المصرية التي شارك فيها الجيش السوداني. كما أسست وحدات متخصصة لمكافحة الإرهاب، و ظلت قوة مرموقة في الجيش السوداني بفضل انضباطها و كفاءتها القتالية العالية.
في موازاة هذه التطورات، امتدت العمليات إلى محلية شرق النيل، حيث كثف الجيش غاراته على القوات المتمردة و محاصرتها و قطع الإمداد عنها، كما أسفرت المواجهات عن مقتل القائد الميداني رحمة الله المهدي “جلحة” و هو أحد أبرز القادة الميدانيين مما أثار انقسامات جديدة داخل المجموعات المتحالفة مع المليشيا. بمقتله ربما طويت صفحة المليشيا إلى الأبد في ولاية الخرطوم و ما تبقي يعتبر جيوب لن يكون من الصعب حسمها خلال الأسابيع القادمة. هذه التطورات تشير إلى أن الصراع لم يعد مجرد مواجهة بين طرفين بل أصبح اختبارًا حقيقيًا لتماسك السودان وقدرته على تجاوز هذه الحرب.
تمثل مدينة بحري موقعًا استراتيجيًا حاسمًا في معادلة السيطرة على العاصمة الخرطوم، إذ تربطها جسور رئيسية بمدينتي الخرطوم و أم درمان ما يجعلها عقدة مواصلات رئيسية. خلال الحرب تحولت بعض أحيائها إلى معاقل رئيسية لمليشيا الدعم السريع التي استغلت بنيتها التحتية لتجهيز مراكز إمداد و خدمات لوجستية و طبية، و مع سيطرة الجيش على أغلب أحياءها ، عقب إحكام السيطرة على معسكر المظلات ومقار استراتيجية أخرى مثل مجمع البشير السكني و مستشفى البراحة، و وزارة التعليم ولاية الخرطوم، و جسر (المك نمر)، بات الجيش أكثر قدرة على تنفيذ عملياته بأريحية، مستعينا بقواته المنفتحة في حدود المسؤلية في كل من سلاح الاشارة و القيادة العامة و المدرعات بجانب القوات الأخرى المتقدمة.
تشير هذه التطورات إلى أن الصراع في السودان ما زال يشهد تحولات ديناميكية، حيث يسعى الجيش لتعزيز مواقعه في العاصمة و ضواحيها، بينما تتراجع مليشيا الدعم السريع تدريجيًا إلى جيوب محدودة. في ظل قرب اكتمال خطة الجيش لاستعادة الأمن، يبقى التحدي الأكبر هو إعادة الاستقرار و ضمان عدم تحول هذه المناطق إلى ساحات جديدة للاقتتال في المستقبل. كما يظل التحدي الأبرز هو إعادة تأهيل المناطق المتأثرة، و ضمان عودة الحياة إلى طبيعتها، و هو ما يستوجب تنسيقًا أمنيًا و إداريًا عاليًا لضمان الاستقرار و السلام لأجل عودة المواطنين إلى منازلهم و إعادة الحياة الطبيعية إلى المناطق التي شهدت المواجهات.
عليه يظل وجه الحقيقة داعما لكل انتصار يحققه الجيش ، تتجدد به آمال السودانيين في استعادة دولتهم وإنهاء فوضى المليشيات . ورغم أن الطريق لا يزال طويلًا، فإن هذا التقدم العسكري يمثل خطوة حاسمة نحو استعادة الأمن والسلام ، و إعادة رسم ملامح مستقبل السودان على أسس من السيادة و القانون. و تظل هذه الجلالة للجيش السوداني “كلينق مبارينا يفتش الرمة” ماضية حتي تضع الحرب أوزارها التي تصف صقر الخلاء الذي يتبع الجيوش شاهدًا على المعارك ليظفر بما يطيب له من طعام.
دمتم بخير و عافية.
الخميس 30 يناير 2025م Shglawi55@gmail.com