
في صيف العام 2012، ابتدر وزير تنمية الموارد البشرية آنذاك ،كمال عبد اللطيف، زيارات إلى كُتاب الدراما و المسرحيين السودانيين في منازلهم، حيث كانت البداية إلى منزل المسرحي الكبير (مكي سنادة) برفقة وفد من مجلس المهن الموسيقية و الدرامية الذي كان يرأسه (علي مهدي). لم تكن تلك الزيارة مجرد لفتة تكريمية، بل جاءت ضمن محاولة جادة لإعادة دمج رموز المسرح السوداني في المشهد الثقافي، في وقت كانت فيه الحركة المسرحية تعاني من شح الموارد و هجرة نجومها. و رغم ما واجهه المسرح السوداني من تضييق خلال فترات مختلفة، فإنه ظل صامدًا يبحث عن فضاءات جديدة للبقاء و التأثير.
اليوم، بعد أكثر من عقد، يتكرر المشهد بزيارة وزير الثقافة و الإعلام و الناطق الرسمي باسم الحكومة ،خالد الأعيسر، إلى المسرح القومي بأم درمان، حيث التقى مجموعة من المسرحيين و الكُتّـاب، بعضهم عاد من المنافي، و البعض الآخر ظل متمسكًا بالخشبة في الولايات الآمنة رغم القسوة التي فرضتها الحرب. لكن الفارق الجوهري بين الزيارتين يكمن في طبيعة السياق؛ فبينما كانت زيارة 2012 محاولة لإنعاش المسرح في ظل بيئة ثقافية راكدة، تأتي زيارة 2025 وسط مشهد أكثر تعقيدًا، حيث دُمّرت البنية التحتية الثقافية و أصبحت إعادة بناء المسرح جزءًا من معركة كبرى لاستعادة السودان من بين ركام الحرب.
هذه المفارقة تعيد إلى الأذهان مرحلة أخرى من تاريخ المسرح السوداني، حين واجه قمعًا شديدًا خلال فترة حكم الرئيس جعفر نميري (1969-1985)، إذ خضع المسرح لرقابة صارمة، و تعرضت بعض العروض للمنع رغم حصولها على موافقات لجان النصوص الرسمية. و من النماذج الكثيرة التي تحضرني مسرحية مميزة ل(عمر الطيب الدوش) “نحن نمشي على جنازة المطر”، تلك المسرحية التي ناقشت العلاقة بين المثقف و السلطة و التحولات الاجتماعية. لم ينطفئ المسرح، بل ازدهر في الخفاء، و استمر المسرحيون في تقديم عروضهم بطرق مبتكرة متحدّين كل محاولات التقييد. و اليوم، إذ نشهد محاولة جديدة يقودها الوزير لإحياء المسرح، يبرز السؤال الكبير: هل يمكن أن يُبعث المسرح السوداني من رماده، ليس فقط كمؤسسة ثقافية، بل كمنبر وطني فاعل في إعادة تشكيل الوعي الجماعي؟
لطالما كان المسرح في السودان أكثر من مجرد منصة للأداء الفني؛ بل كان فضاءً للحوار، و منبرًا لمساءلة الواقع، و مختبرًا للتحولات الاجتماعية و السياسية. و عبر عقود، عكس المسرح نبض الشارع، و شكَّل صوتًا مقاومًا في مواجهة الاستبداد، سواء من خلال النصوص المسرحية أو العروض التي لجأت إلى الأطراف لتتحرر من قيود السلطة. و اليوم، في ظل ما خلّفته الحرب من دمار طال الحجر و البشر، يعود الحديث عن دور المسرح، و لكن هذه المرة ليس كمجرد فن، بل كأداة ضرورية في معركة إعادة البناء.
في هذا السياق، أثبتت تجارب دولية عديدة أن الفنون، و على رأسها المسرح، ليست مجرد وسائل للترفيه، بل أدوات فاعلة في تحقيق المصالحة الوطنية، و ترميم النسيج الاجتماعي، و إعادة تأهيل المجتمعات. فمن ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، إلى رواندا بعد الإبادة الجماعية، و من البوسنة و الهرسك إلى جنوب إفريقيا، كان المسرح حاضرًا في لحظات إعادة التشكل، ليس فقط كنشاط ثقافي، بل كوسيلة لطرح الأسئلة الصعبة و إعادة صياغة الذاكرة الجمعية.
في رواندا، على سبيل المثال، استخدمت العروض المسرحية كجزء من عملية العدالة الانتقالية، حيث قدمت شهادات الناجين، وأعادت رواية قصص الضحايا، وساعدت في خلق مساحات للتفاهم بين الأطراف المختلفة. وفي البوسنة، لعب المسرح دورًا مهمًا في التخفيف من حدة الاستقطاب العرقي عبر عروض مسرحية ركزت على المعاناة المشتركة بدلًا من الخطاب السياسي المتنازع. هذه التجارب تفتح الباب أمام تساؤل جوهري: هل يمكن للمسرح السوداني أن يلعب دورًا مشابهًا في ترميم الانقسامات التي عمّقتها الحرب؟
إحدى أكبر التحديات التي تواجه الدول الخارجة من الحروب هي إعادة تشكيل هوية وطنية لا تقوم على الإقصاء، بل تعكس التنوع وتؤسس لمستقبل مشترك. وهنا، يمكن للمسرح في السودان أن يكون أداة فاعلة لإعادة صياغة هذه الهوية، بما يملكه الفاعلون من وعي يعزز ثقافة السلام، ويدعم الوحدة الوطنية والتعايش السلمي بين السودانيين قاطبة، من خلال أعمال تناقش ليس فقط آثار الحرب، بل أيضًا مفاهيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمواطنة.
الحروب لا تترك آثارها فقط على الاقتصاد و السياسة، بل تمتد إلى الأفراد، فتنتج جيلًا مثقلًا بالصدمات، و الإحساس بالخسارة، و ربما الخذلان و انعدام اليقين بالمستقبل. و هنا، يمكن للمسرح أن يكون أداة علاجية و اجتماعية تساعد الأفراد على التعبير عن معاناتهم، و التعامل مع صدماتهم و تحويل الألم إلى طاقة إبداعية تنهض بالمجتمعات.
كذلك، لا يمكن فصل المسرح عن الإعلام في مرحلة ما بعد الحرب، و هذا ما يدركه الوزير (خالد الأعيسر) من خلال سلسلة الزيارات التي ابتدرها للتلفزيون، و الإذاعة، و وكالة السودان للأنباء و المسرح القومي. و أتوقع أن تكون الزيارة القادمة لإحدى الصحف أو مؤسسات النشر، فقد تناقلت الأخبار ما حلّ بالدار السودانية للكتب من دمار. فكل هذه المنظومة ظلت تلعب دورًا مهمًا في صياغة الوعي العام للسودانيين.
الإعلام السوداني، رغم ما واجهه من تحديات، قادر على المساهمة في المرحلة القادمة بصورة فاعلة إذا وجد الدعم من الدولة و المجتمع. و من هنا، فإن التكامل بين المسرح و الإعلام يمكن أن يكون حجر الأساس في بناء سودان جديد قائم على المعرفة و التنوير. لذلك، لا بد من إعادة تأهيل البنية التحتية للمسارح، بدءًا بالمسرح القومي في أم درمان، ليكون مركزًا رئيسيًا للنهضة المسرحية، بجانب إطلاق مهرجانات مسرحية وطنية تجمع الفرق من مختلف الولايات، لتعزيز التفاعل الثقافي بين الأقاليم السودانية، و كذلك تعزيز التعاون بين المسرح و الإعلام لضمان وصول الرسائل المسرحية إلى الجمهور.
عليه، و بحسب ما نراه من “وجه الحقيقة”، فإن السودان اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء ذاته بعد عامين من الحرب. و كما أثبتت تجارب دول عديدة، فإن النهضة بعد الحرب ليست مجرد إعادة إعمار للبنى التحتية، بل هي إعادة بناء للإنسان نفسه. المسرح، باعتباره أداة للوعي و التعبير، يمكن أن يكون أحد أهم الوسائل لإعادة ترميم الهوية الوطنية، و تعزيز المصالحة و التأسيس لثقافة جديدة قائمة على التعددية والسلام.
دمتم بخير و عافية.
الإثنين 10 فبراير 2025 م.
Shglawi55@gmail.com