مقالات الرأي
أخر الأخبار

وجه الحقيقة … مقطع موسيقي تجاوز الانتماءات وجمع الناس .. بقلم/ إبراهيم شقلاوي

من لطائف الإمتاع و المؤانسة أن الا هتمام والفضول قد يدفعانك لإجراء بعض الاختبارات الطارئة التي تهدف إلى البحث عن التباين في الانتماءات الفكرية للأفراد دون استئذان. أول أمس حاولت أن أقوم بذلك في محاولة لاكتشاف جمهور منصات التواصل الاجتماعي، فبعثت في حالتي مقطعاً موسيقياً لفرقة أوروبية متخصصة في العزف علي الآلات الموسيقية بمختلف تشكيلاتها بحسب مفهوم “الاناكروسيس” في محاولة للانصراف قليلا عن أجواء الحرب التي عطلت الحياة و زادت أوجاع الناس و آلامهم. كانت النتيجة مفاجأة، إذ تفاعل مع المقطع جميع الجمهور الذي ضم ألوان الطيف السياسي و الفكري و الثقافي من السودانيين المجتمعين على صفحاتي في “واتساب”، “فيسبوك”، “تلجرام”، “ما ستودون”و “إكس”.

اكتشفت حينها حقيقية ما قاله لنا أستاذ الفلسفة ” خيري السمعان” في الجامعة، الرجل حدثنا عن ” الفارابي” ،و” يوهان سيباستيان باخ” ،و”شوبنهاور” ،و شرح مفهوم “الجميل” و”الجليل” و”التراساندال”، قال: إن “الإنسان كائن محب للموسيقى” يمكن ذلك أن يعد تعريفاً لتميزه عن بقية الكائنات. على اعتبار أن هناك تعريفات أخرى قد لا تكون جامعة مانعة، لكن بالتأكيد كان هناك قليل من الشطط المحمود الذي يدفع لأعمال التفكير كعادة دارسي الفلسفة، الرجل كان محباً لعلم الجمال و هو أحد أهم مباحث الفلسفة بجانب مبحثي الحق و الخير.

تفاجأتُ حقيقةً بتفاعل الجمهور مع ذلك المقطع الموسيقي الماتع، الذي استحوذ على إعجاب الحاضرين كما يظهر في المشاهدة، و الذي عبر عن مكنونات النفس البشرية، كثير من الأحيان الناس يميلون إلى الانعزال أو البحث عن الراحة بعيداً عن الضجيج و زحمة الحياة و الأحداث يتساوى في ذلك أصحاب الفكر الديني المتشدد مع أصحاب الفكر الليبرالي المتحرر و بين ذلك المعتدلون الذين لا انتماء لهم. هكذا تفاعل الجميع مع هذه المعزوفة الممتعة مما جعلني أتأمل ردود الفعل هذه في إعجاب و أطرح سؤالاً مهماً: هل يمكن أن تكون الموسيقى و الفنون مدخلاً تأسيسياً لوحدة أهل السودان؟ الذين أعياهم الخلاف السياسي و طموحات الأحزاب السلطوية دون تفويض، لدرجة أنهم أشعلوا حرباً أفقدتهم الأمن و السلام؟ كما أفقدت البلاد ما كان يميزها من تسامح و وعي سياسي عرفت به بين الشعوب .

ذلك يجعلنا نطرح سؤالاً آخر: هل بالإمكان أن تلعب الموسيقى دوراً في زمن الحرب لتوحيد السودانيين حول الوطن و القوات المسلحة السودانية و تعزيز فرص السلام و استعادة الأمن؟ كما نعلم في أوقات الحروب و النزاعات غالباً ما تصبح الموسيقى ملاذاً للفرد و الجماعة؛ إذ تساهم في تخفيف التوترات النفسية و تخلق مساحة للتلاقي بين الأفراد بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية أو السياسية. لذلك في ظل الصراعات التي قد تمزق المجتمعات و تعصف بوحدتها، تظل الموسيقى لغة مشتركة قادرة على تجاوز الفوارق و الانقسامات. فالموسيقى في زمن الحرب لا تقتصر على كونها وسيلة للتسلية أو الهروب، بل هي أداة قوية للمقاومة و الصمود تساهم في الحفاظ على الهوية الثقافية و توحيد الصفوف تجاه القضايا الوطنية إذا تم توظيفها بصورة سليمة و جيدة و جذابة.

في السودان لعلنا نذكر استخدم الشعراء و الفنانون و الموسيقيون الأغاني الوطنية في فترات مناهضة أنظمة الحكم المستبدة في (أكتوبر )1964 و (أبريل )1985 لتوحيد الجماهير حول قضية السلام و المقاومة. في تلك الفترة كان الفنان (محمد الأمين) و (محمد وردي) و آخرين من أبرز الذين استخدموا الموسيقى كأداة لمناصرة القضايا الوطنية و قضايا المجتمع في ظل الانقسامات السياسية العميقة في البلاد. كذلك في محيطنا الإقليمي هناك العديد من النماذج التي تظهر كيف لعبت الموسيقى دوراً هاماً في توحيد الشعوب في أوقات الصراع. على سبيل المثال، في الجزائر، كانت الموسيقى جزءاً من النضال ضد الاستعمار الفرنسي في الثورة الجزائرية (1954-1962) حيث قام الشباب بتقديم أغاني ثورية أسهمت في تعزيز الروح الوطنية و توحيد الشعب الجزائري ضد الاحتلال.

و في رواندا، بعد الإبادة الجماعية عام (1994)، لعبت الموسيقى دوراً محورياً في مساعدة المجتمع على تجاوز الصراع. أغاني مثل “Twasezereye” و”Ubumwe” كانت جزءاً من عملية إعادة بناء النسيج الاجتماعي في البلاد بعد الفظائع و الانتهاكات، كانت بمثابة أداة لنشر الوعي و تعزيز المصالحات الإجتماعية بين مختلف الأعراق. في مصر، خلال ثورة (25 يناير 2011) كانت الموسيقى جزءاً من الحراك الشعبي، حيث استخدم المتظاهرون الأغاني الوطنية و الموسيقى الشعبية كوسيلة للتعبير عن احتجاجاتهم و توحيد صفوفهم مما ساعد في تحفيز الجماهير وتعزيز الإحساس بالوحدة الوطنية. و كذلك في لبنان وسوريا و العراق. إذاً، يمكن للموسيقى أن تكون بمثابة رافعة وطنية تساهم في توحيد الشعوب و تذكيرهم بما يجمعهم من قيم إنسانية تتجاوز الخلافات و الصراعات الحزبية و السياسية وتستشرف المستقبل دون قيود.

عليه فان وجه الحقيقة يجب أن نراه كما يبدو في هذه المرحلة المهمة، و التي تتمثل في التحولات التي نعيشها واقعاً حيث تكون الفنون ذات دور كبير في التعبير عن الوجدان الذاتي و الجماعي، حيث يكون التعبير الفني حاملاً للرسالة الجديدة القاصدة التي تدعو لأهمية وحدة الناس بوجه صريح أو غير صريح، ذلك لأن الفنون تساهم في دفع حركة المجتمع و تعزز التفاعل بين الأفراد، فتستوعب القيم و كريم المعتقدات التي تمكنت في الوجدان، لأجل تحقيق الاستقرار الفردي و المجتمعي بما يعزز ثقافة السلام و يدعم الوحدة الوطنية و التعايش السلمي بين السودانيين قاطبة.

دمتم بخير و عافية.
الإثنين 2 ديسمبر 2024 م Shglawi55@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى