أصل القضية … السودان والبحيرات العظمى .. بقلم/ محمد أحمد أبوبكر .. باحث بمركز الخبراء العرب

🌀 الخبر كما ورد في سونا : نائب رئيس مجلس السيادة السوداني يشارك في اجتماعات الآلية الإقليمية لمراقبة الاتفاق الإطاري للأمن والسلم والتعاون في منطقة البحيرات العظمى (كمبالا، ٢٨ مايو ٢٠٢٥م).
لكن ما بين سطور هذا الخبر، تلوح إشارات أعمق، لا تُقرأ بالعناوين، بل تُحلّل بالمفاتيح الجيوسياسية وأدوات الفهم الاستراتيجي.
أولًا: العودة إلى العمق الإفريقي… ليست مجاملة دبلوماسية
في زمن الأزمات الوجودية، لا تُقاس أهمية التحركات السياسية بعدد الصور الملتقطة أو عدد الكلمات في البيان الختامي، بل بمدى تأثيرها في ضبط البوصلة الجيوسياسية.
وهنا تحديدًا، تبدو مشاركة السودان بمثابة:
* تحرّك لافت من الانكفاء إلى المبادرة: فبعد أن كانت الخرطوم غارقة في صراعات الداخل، ها هي ترسل إشارة واضحة بأنها عائدة إلى المجال الحيوي الذي لطالما أهملته تحت ضغط الأزمات.
* استباق للتطويق: فالمنطقة المحيطة بالبحيرات ليست ملعبًا خاليًا. التنافس الإقليمي فيها محموم، ومَن يغيب عن طاولة الترتيبات، يُستهدف في أمنه وحدوده وقراره السيادي، حتى من أقرب الجيران.
> الجغرافيا لا ترحم الغائبين… والمجال الحيوي لا تُترك فراغاته إلا لخصم أو وصي.
ثانيًا: استراتيجية “الجسر والمورد” تقرأ الخرطوم كعقدة لا كحد
عبر عدسة “الجسر والمورد”، لا يعود السودان مجرد بلد يشارك في اجتماع قاري، بل يصبح لاعبًا يبحث عن استعادة تموضعه بوصفه:
١. جسرًا جيواستراتيجيًا لا ممرًا لوجستيًا
* مَن يُدرك أن البحر الأحمر والبحيرات العظمى يُكملان بعضهما البعض، يفهم لماذا يحتاج السودان إلى أن يكون حاضرًا عند تخوم كيغالي وبوجمبورا لا عند بوابات الميناء فقط.
* الربط بين دارفور والبحيرات ليس مجرد شريان نقل، بل محور نفوذ.
* التعاون في الزراعة والطاقة مع دول البحيرات ليس فقط تنمية، بل اختراق اقتصادي هادف.
٢. فاعلًا جيوأمنيًا لا متلقٍ للمهددات
ما يحدث في شمال كيفو لا يبقى في كيفو.
المليشيات، الشبكات العابرة للحدود، تهريب السلاح والبشر، كلها مظاهر من فوضى البحيرات، التي إن لم يحصّن السودان نفسه منها بالمشاركة والقيادة، ستتسلل إليه كسكين في خاصرته الغربية والجنوبية.
> القاعدة الذهبية في الجغرافيا الأمنية: من لا يُؤمن جواره، يصبح امتدادًا لفوضاه.
ثالثًا: الفُرص والتحديات في ميزان اللحظة
فرص يجب التقاطها:
* صناعة تموضع جديد للسودان بوصفه طرفًا لا وسيطًا فقط، بل شريكًا في هندسة السلام الإفريقي.
* التحول إلى مركز ربط للموارد الإفريقية بالأسواق العالمية عبر بوابة البحر الأحمر.
* تحقيق سيادة منتجة من خلال تحويل المشاركة الأمنية إلى مشاريع اقتصادية ملموسة تعود بالنفع على الهامش.
لكن التحديات ليست غائبة:
* النفوذ الرواندي–الأوغندي في منظومة البحيرات يتطلب حنكة في بناء التحالفات لا صدامًا مباشرًا.
* هشاشة الداخل السوداني قد تتحول إلى ورقة ابتزاز دولي أو تقويض إقليمي.
* التدخلات الدولية في الملف الإفريقي، خصوصًا من قِبل فرنسا وأمريكا، قد تحوّل السودان إلى ساحة تنافس لا منصة شراكة.
رابعًا: توصيات تحوّل الحضور إلى نفوذ
١. بناء دبلوماسية متعددة المسارات: لا تقتصر على القادة، بل تشمل قطاع الأعمال، الأكاديميين، الشباب، والمجتمع المدني.
٢. الربط بين الأمن والتنمية: كل جهد أمني في البحيرات يجب أن يُترجم إلى مشروع إنتاجي في دارفور أو النيل الأزرق أو كسلا.
٣. تثبيت السودان كوسيط إفريقي مستقل: بعيدًا عن الاصطفافات الإقليمية والدولية، مستفيدًا من رصيده التاريخي في الحياد البناء.
أصل القضية: من يصوغ اللحظة الإفريقية؟
مشاركة السودان في اجتماعات كمبالا، ليست حركة تكتيكية عابرة، بل فرصة لرسم إستراتيجية طويلة المدى تستعيد بها الخرطوم موقعها كـ**”قلب ينبض لا حافة تنتظر النبض”**.
> فإما أن نكون قوة قارية تفكر وتخطط وتبني،
أو نبقى في موقع المُراقب الذي تُكتب له الأقدار بأقلام الآخرين.
واستراتيجية “الجسر والمورد” لا تترك مجالًا للصدفة، بل تُلزمنا بأن نربط أمن السودان بجغرافيا التأثير، ونحوّل موارده إلى وسيلة استقلال لا أداة استغلال.
نعم، الخرطوم في كمبالا اليوم… لكن العيون يجب أن تظل على برازافيل وغوما وبانغي وأبوجا.
فالذي يمتلك البحيرات… قد يُمسك بمفتاح إفريقيا القادم.