خدمات شبكات (إستار لينك).. التحدي القادم مقابل سيادة الدول (2 من 3) …بقلم / م.عبدالمنعم عوض دويح
ختمنا مقالنا السابق في هذه السلسلة بالحديث عن الأقمار الصناعية ذات المدارات المستقرة الثابتة التي تدور مع الأرض في مسارات تبعد حوالي (36,000) كيلومتر عن سطح الأرض، و قد تمت الإشارة إليها كإحدي التطورات التي فرضتها حوجة العالم إلى تقنيات فضائية لتغطية مساحات إضافية بالخدمات، و لذلك لا يمكن إعتبارها تدرجاً في سياق التطور التقني الذي سردناها في المقال السابق و إنما ملازماً له في مجال آخر مختلف، حيث برز الاتجاه نحو غزو الفضاء الخارجي بواسطة الدول العظمى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في منتصف الأربعينات، و دخول العالم إلى مرحلة الحرب الباردة و سباق التسلح بين المعسكر الشرقي بقيادة روسيا و المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، و ظهور ما يعرف بحرب النجوم و الذي كان فيه استخدام الاقمار الصناعية للأغراض التجسسية و التصوير الجوي و الاستشعار عن بعد وتوجيه الصواريخ الدقيقة العابرة للقارات هو الهدف المنشود، ثم ظهرت الحوجة إلى إستخدام هذه الأقمار في مجال الاتصالات و إنشاء المحطات الفضائية للأغراض المختلفة، و مثل ما بدأت شبكة الإنترنت في بداية الستينات كشبكة أبحاث ضمن مشروع يتبع لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ثم تطورت و أصبحت متاحة لإتصال جميع العالم، فقد بدأت أيضاً منظومات الاقمار الصناعية كمنظومات عسكرية تسيطر بها الدول العظمى على الفضاء الخارجي ثم تطورت لتصبح ذات أغراض مدنية تخدم البشرية جمعاء في شتى المجالات بما فيها الأبحاث الزراعية، و إستكشاف طبوغرافيا الأرض و طبقاتها بحثا عن الماء و النفط و الثروات المعدنية.
و لكن اللافت في عالم اليوم هو ظهور أقمار ذات مدارات منخفضة (LEO) تسير في مسارات تبعد عن الأرض تتراوح بين (500 إلى 2,000) كيلومتر فقط، بغرض توفير تغطية واسعة النطاق في المناطق الغير مغطاة بخدمات الإتصالات، و توفير خدمة مستمرة للأشخاص أثناء التنقل، و تعتبر فعالة في ترقية شبكة الجيل الخامس (5G)، إلا أن عمرها الافتراضي أقل من أقمار المدارات المستقرة حيث يتراوح بين 5( إلى 8) سنوات يجب أن يتم تغيير القمر بعدها مباشرة، و قد أدت تقنية إعادة إطلاق الصواريخ التي تضع هذه الاقمار في مداراتها إلى خفض تكلفة إطلاقها مما ساهم في نمو سوقها بشكل متزايد. ففي العام (2021)م حصلت شركة (Space-x) لمالكها رجل الأعمال الأمريكي (أيلون ماسك) على إذن من لجنة الإتصالات الفيدرالية بالولايات المتحدة لإطلاق عدد (2824) قمراً صناعيًا في مدار أرضي منخفض، و لاحقاً وصلت حتى (4200) قمراً بهدف توسيع نطاق الوصول إلى الإنترنت عالي السرعة عريض النطاق للسكان في المناطق غير المغطاة، و ذلك عبر الاسم التجاري (إستار لينك).
و قد شاهد الناس في السودان في أوقات مختلفة من الأعوام السابقة عبور مجموعات منتظمة من الأقمار الصناعية تسير خلف بعضها في السماء، شوهدت بالعين المجردة و هي في اتجاهها لتأخد مواقعها ضمن المدارات المنخفضة حول الأرض، و لم تكن هذه الرحلة لإطلاق الاقمار الصناعية في السماء هي نتيجة الموافقة من لجنة الاتصالات الفيدرالية فقط و إنما نتيجة لمجموعة من الإجراءات التي تتبعها الدول في هذه الحالة بعرض الأمر على اللجان المختصة بالاتحاد الدولي للإتصالات (ITU) لدراسة الأمر و استيفاءه للمطلوبات الفنية، و من ثم تعميم نشرات لجميع الدول الأعضاء بالعالم لأخذ الإذن و الموافقة، كما كفلت لهم حق الاعتراض في حالة تأثير هذا الإطلاق على أي خدمات قائمة بالدول.
و لم تكن شركة (إستار لينك) هي الشركة السباقة في هذا المجال، فقد سبقتها شركة (قوقل) العملاقة في نشر بالونات فضائية لتقديم خدمات الانترنت ذات النطاق العريض في العديد من دول العالم مستفيدة في هذا المجال من خبراتها السابقة في مجال التصوير الجوي و التنبوء بحالة الطقس و الخرائط الرقمية و تطبيقاتها الشهيرة عالية الدقة المعروفة بتطبيق (قوقل آيرث) و الذي تضمن أيضاً نشر كاميرات تصوير حية يمكن مشاهدتها عبر تقنية (الفيديو) داخل العديد من مدن العالم في تعدٍ سافر على خصوصية السكان في تلك المدن.
و على الرغم من أن الهدف من خدمات شبكة (إستار لينك) هو توفير خدمات الاتصال و الإنترنت ذات النطاق العريض بسرعات عالية تفوق بكثير آداء الانترنت عبر الأقمار الصناعية التقليدية بالإضافة إلى إيصال تلك الخدمة إلى المواقع التي يتعذر الوصول إليها لصعوبتها أو التكلفة العالية التي يتطلبها إيصال تلك الخدمة، و بالرغم من إشتراط جميع الدول في حصول شركات مثل (إستار لينك) -أو الشركة التي ظهرت منافسة لها (OneWeb)- على ترخيص يسمح لها بإنزال الخدمة في الدولة المغطاة بمجموعة أقمارها، و الالتزام بجميع الشروط التي فرضتها الدولة المعينة وفقاً لقوانينها و لوائحها المنظمة، مع كامل الإلتزام بسداد جميع الرسوم المقررة للدولة التي تعتزم تقديم الخدمات بها، إلا أن حدوث تغطية لمجموعة أقمار شبكة (إستار لينك) لسماء الدولة وحده كفيل بأن يجعل الدولة تشعر بفقدان السيطرة على الفضاء الخارجي الذي يمكن أن يتم من خلاله تقديم خدمة خارج نطاق سيطرة الدولة، أو في منطقة نائية داخل الدولة، كما عاش العالم تجربة أن يتم إستخدام شركات تقديم خدمات الاتصال و الإنترنت عبر سواتل المدارات المنخفضة في الأغراض السياسية كما حدث في الحرب الروسية الأوكرانية بعد أن أقدمت روسيا على تدمير البنية التحتية لشبكات الاتصالات الأرضية لدولة أوكرانيا، فما كان من حلف (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلا و أن قام بإستئجار مجموعة من أقمار شبكة (إستار لينك) و دفع تكلفتها كاملة في مقابل أن يتم تقديم خدمات الاتصالات و الانترنت لدولة أوكرانيا و مساعدة الجيش الأوكراني في تشغيل منظوماته الدفاعية و الصاروخية باستخدام خدمات شبكة (إستار لينك)، حيث صرح المسئولون الأوكرانيون أن الدفاع الأوكراني سينهار تماماً إذا توقفت شبكة (إستار لينك) عن العمل، لذلك طالبوا حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بأن تضمن لهم إستمرار شركة (Space-x) في العمل معهم، و ذلك رداً على تصريحات الملياردير الأمريكي (أيلون ماسك) بأن شروط إستخدام خدمة الاتصالات الفضائية (إستار لينك) تحظر إستخدامها في العمليات العسكرية الهجومية حيث طلب الأوكرانيون تشغيلها لتنفيذ هجوم ضد روسيا.
و نواصل…