مقالات الرأي
أخر الأخبار

وجه الحقيقة … الأمن المائي لحكومة الأمل .. بقلم/ إبراهيم شقلاوي

في أعقاب إعلان رئيس الوزراء الانتقالي د. كامل الطيب إدريس عن ملامح “حكومة الأمل” و ما صاحبها من وعود بإصلاح الحكم على أساس الكفاءة الوطنية بعيدًا عن المحاصصة، طُرح مقترح دمج وزارة الموارد المائية و الري ضمن وزارة الزراعة كجزء من خطة إعادة هيكلة الوزارات بهدف ضبط العمل الإداري وتحقيق فعالية مؤسسية حاكمة.

هذا الطرح بحسب خبراء يلامس جوهرًا إستراتيجيًا بالغ الأهمية يرتبط بشكل مباشر بالأمن القومي السوداني و يثير تساؤلات جوهرية حول فهم الدولة لطبيعة إدارة الموارد في سياق إقليمي و دولي بالغ الحساسية.

المياه في حالة السودان، لم تعد ملفًا فنياً يمكن إدراجه ضمن أولويات وزارة قطاعية كوزارة الزراعة، بل تحولت إلى قضية وجودية تمس بقاء الدولة ذاته. فالسودان ،بوصفه دولة محورية في منظومة حوض النيل، يتعامل مع شبكة من التعقيدات الجيوسياسية المتزايدة، بدءًا من تحديات سد النهضة، مرورًا بإدارة المياه الجوفية و وصولاً إلى صراعات النفوذ الإقليمي التي بدأت تتبلور حول الأنهار و الأحواض العابرة للحدود. في هذا السياق، لم يعد من المقبول -لا سياسيًا ولا فنيًا- أن تُدار المياه ضمن كيان غير متخصص. إنما تقتضي المرحلة تأسيس وزارة مستقلة وفعالة للموارد المائية، تمتلك السيادة الفنية، و السلطة المؤسسية و الكفاءة العلمية التي تتيح لها قيادة هذا الملف الاستراتيجي.

لقد آن للري أن يترجل من صهوة الموارد المائية. فالحقيقة التي يغفلها البعض أن الري – كقطاع – يمثل في جوهره “التصرف في المياه”، بينما تمثل الموارد المائية “الإيرادات” الكلية لهذا المورد الحيوي. و بين الإيرادات و التصرفات، هناك سلسلة متكاملة من العمليات من توليد الكهرباء، و تخزين المياه في السدود، و استغلال الموارد الجوفية و حتى التطورات المستقبلية في استخدام المياه لإنتاج الهيدروجين الأخضر. هذه المسارات جميعها تقتضي جهازًا مؤسسيًا جامعًا و مهيمنًا يضع سياسة مائية شاملة تنسجم مع أولويات الأمن القومي لا مجرد أداة لتنظيم عملية الري في الزراعة.

و لئن كانت وزارة الموارد المائية غائبة عن واجهة التمويل خلال العقود الماضية، حيث ظلت ميزانيات الدولة تتجه في معظمها إلى تمويل مشاريع الري فقط، فإن هذا القصور لا يُعزى فقط إلى غلبة الرؤية القطاعية، بل إلى فشل جماعي في رفع مستوى الوعي بأهمية المياه كمورد سيادي يتجاوز الحسابات الإنتاجية اليومية. و ما يفاقم من خطورة هذا التوجه هو غياب الحاكمية المركزية على منظومة المياه، و التي تضم اليوم وحدات متعددة كالسدود، و الخزانات، و المياه الجوفية، و الوديان و مياه النيل، إضافة إلى سكرتارية الهيئة الفنية المشتركة، و كلها تحتاج إلى جهة موحدة صاحبة قرار، لا كيان تابع لوزارة أخرى.

إن الحديث عن مخاطر دمج وزارتي الري و الزراعة لا يمكن فصله عن الواقع الداخلي المتردي في وزارة الري نفسها، و التي تعاني بحسب المؤشرات المتاحة من غياب خطة استراتيجية بعيدة المدى، و انعدام السياسات المنظمة لاستخدام المياه، فضلاً عن غياب الجاهزية الفنية للتعامل مع التحديات المتفاقمة، و في مقدمتها السيناريوهات الخطرة المرتبطة بسد النهضة، سواء في مواسم الوفرة أو احتمالات الانهيار المفاجئ لا قدر الله. بهذا المعنى، فإن رفض الدمج -على وجاهته- لا يجب أن يُغني عن المطالبة بإصلاح شامل للوزارة نفسها من حيث التخطيط، و الحوكمة، و بناء القدرات، و القدرة التفاوضية، و الرؤية الفنية لمواجهة تغير المناخ و شح الأمطار أو فيضاناتها، إضافة إلى إدارة المياه الجوفية التي بدأت دول مجاورة فعليًا في سحبها واستغلالها.

ولا يمكن فصل هذه الاعتبارات عن تجارب الدمج السابقة التي أثبتت فشلها هيكليًا لا إداريًا فقط، فقد أدى الجمع بين وزارتي الزراعة والري إلى تضارب واضح بين من يستهلك المورد ومن يُفترض به تنظيمه، وكانت النتيجة انهيار التنسيق، تدهور شبكات الري، هدر المياه، وتراجع تمثيل السودان في المنتديات الدولية ذات العلاقة. فالزراعة، وإن كانت مستفيدًا رئيسيًا من المياه، إلا أنها لا يمكن أن تكون المنظم الحاكم لها، لأن ذلك يخل بتوازن المصالح و يضرب بمبدأ الحياد المؤسسي.

و في ظل انعدام هذا الحياد، يصبح لزامًا على الدولة أن تتجه لتأسيس مركز سيادي للموارد المائية، يمثل بنكًا معلوماتيًا و تنفيذيًا للمياه، تكون له السلطة في تحديد الكميات، والمواقيت، و نوعية المياه المستخدمة لكل قطاع بحسب الأولوية الوطنية، لا بحسب ضغوط المستخدمين. و من هنا يصبح واضحًا أن قضية استقلال الوزارة ليست فقط مطلبًا بيروقراطيًا، بل هي لبّ المشروع السيادي السوداني، إذا ما أرادت الدولة بناء نموذج تنموي يستجيب للتحولات المناخية، و تحديات الأمن الغذائي، والصراعات الإقليمية المستجدة.

و تبدو خطورة الوضع أكثر وضوحًا إذا علمنا أن السودان لا يملك حتى الآن سياسة مائية وطنية متكاملة، تُربط فيها الموارد المتاحة بالتنمية الصناعية، و المناخ، والزراعة، والطاقة، والتخطيط الحضري. الوزارة المستقلة هي الوعاء المؤسسي الوحيد القادر على إنتاج هذه الرؤية الوطنية، وبناء شراكات فاعلة مع الجامعات و مراكز البحوث، والتفاوض باسم السودان في المحافل الدولية، و التعامل مع المؤسسات المالية العالمية من موقع قوة، لا من موقع التبعية الفنية أو السياسية.

إن هذا الملف، بكل ما يحمله من تعقيد، لا يمكن أن يُحلّ بنقاش داخلي محدود في مجموعات مهنية، بل يجب أن يُطرح على مستوى أوسع يشمل صناع القرار و المختصين من خلال ورش و سمنارات متخصصة، تقود إلى بلورة رؤية استراتيجية متكاملة لإدارة المياه في السودان. والرؤية هذه ضرورة ملحّة في ظل واقع هش سياسيًا ومائيًا، تتداخل فيه التحديات البيئية، و الضغوط الإقليمية، مع ضعف مؤسسي داخلي لا يمكن إنكاره.

إن الدفاع عن استقلال وزارة الموارد المائية بحسب ما نراه من وجه الحقيقة يجب ألا يُختزل في شكله الإداري، بل يجب أن يُبنى على إدراك عميق بأن المياه هي المورد السيادي الأول في السودان و الخط الأمامي في معركة الدولة من أجل البقاء. و كل تساهل في هذا الملف هو تفريط في مستقبل السودان، لا سيما في عالم بات يتصارع على كل قطرة من المياه و يعيد صياغة خريطة النفوذ السياسي على ضوء من يملك الماء، و من يديرها و من يخطط لها.
دمتم بخير و عافية.
الأربعاء 25 يونيو 2025 م Shglawi55@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى