الصحيفة الإلكترونية
أخر الأخبار

وجه الحقيقة… الناس يعودون إلى بيوتهم، بينما المليشيا تعمل بصمتها في المكان … بقلم إبراهيم شقلاوي

عاد الأمن والاستقرار إلى محليات أم درمان و كرري و بعض الأجزاء من محلية بحري، الناس سعداء لأول مرة بعودة مظاهر الحياة المدنية و الاجتماعية، سعداء بوجود الشرطة في الأسواق و الشوارع الرئيسية و الطرقات، سعداء برجل المرور وهو ينظم حركة المركبات و يحرر إيصال المخالفة، حدثني أحد الأصدقاء الذين عادوا مؤخراً إلى مأمنهم في أم درمان عندما رأى رجل المرور في أحد التقاطعات داخل أم درمان لم يتوجس خيفة أو ينفلت هارباً إلى طريق آخر كما كانت العادة، بل توجه إليه مباشرة و عانقه، و ذرف دمعة على مظهر الحياة المدنية و الأمن و نسمة المكان. قال: “قلت له: أين الإيصال؟ أعطني إياه، أنا جاهز للدفع حتى لو تطلب الأمر زيادة قيمة المخالفة، لأنه لم يكن يحمل رخصة القيادة، لكنه يحمل جواز السفر مع شهادة ملكية السيارة ضحك و ضحكنا كثيراً مع بعض الهمهمات.

تلك الحياة الممتعة بكل تفاصيلها القاسية الصعبة كان يعيشها الناس بعد سقوط حكم الرئيس البشير، رغم المعاناة و المكابدة و لكن كان هناك أمن و سكن و (جيرة) تفتقدك و تصلك بالسلام و المحبة و التحية الصباحية.

بالأمس جاء في الأخبار أن قوات الدفاع المدني أخمدت حريقًا في مبنى المجلس الوطني، الذي أشعلته المليشيا نتيجة قصف متعمد على المبنى من مكان تواجدها. توقفت عند الخبر باستمتاع و فرحة، نعم و الله، على الأقل في جانب مظاهر عودة الحياة المدنية رغم التحديات، حيث ظهرت “عربة المطافئ” بكامل طاقمها من رجال المهام الصعبة و بزيهم المهيب في شارع الموردة و هي تطوي المسافة بخفة و مسؤولية، تعبر من محلية أم درمان حيث (كمندانية) الشرطة التي يعرفها أهل أم درمان، و التي تمثل جزءًا من تاريخهم و ارتباطهم بالمكان و الأجواء الأمدرمانية المدهشة.

قوات الدفاع المدني هذه كانت أول العائدين للخدمة التي توقفت بسبب الحرب. عادت مع عودة الحياة إلى أم درمان بعد أن طهرها الجيش من دنس المليشيا. كانت كتفًا بكتف مع المواطن، حيث نفذت العديد من البرامج المجتمعية والأنشطة الخدمية، وفرت مياه الشرب لعدد من الأحياء السكنية التي كانت تجد صعوبة في الحصول على المياه، و كذلك للمستشفيات. بجانب عمليات إصحاح البيئة، قامت بعمليات معقدة في مجال تعقيم و تطهير المؤسسات الصحية و المرافق الحكومية، كذلك في جمع و تصنيف الجثث، و فحص المنازل المتأثرة بالحرب.

أما عن سلوك المليشيا الذي بدأت تنتهجه مؤخراً في حرق المباني الحكومية و الخدمية و السكنية، فهذا سلوك متوقع لمن لا يرتبط بذكريات المكان أو بتاريخه لأنه غريب الوجه و اللسان. بدأوا بحرق كل معالم الخرطوم بلا استثناء في كل أماكن سيطرتهم، بعد أن بدأ الجيش يحيط بهم من كل جانب، بدأوا بحرق برج الفاتح، و المتحف الأثري القومي، و برج النيل، و برج شركة بتروناس، و القصر الجمهوري، و السوق العربي و غير ذلك. هذا ما ظهر للناس و نقله الإعلام المحلي و المواقع الإلكترونية الموثوقة.

بدأوا يحرقون كل ما يقابلهم في طريق الهروب للنجاة من الجيش الذي أطبق عليهم و أحكم الخناق. يُقال وحسب السرديات الرائجة، إن مسألة حرق المكان وطمس معالم الحياة فيه سلوك مركوز في ثقافة هذه المليشيا، و هو بمثابة البصمة الدالة عليهم التي يتباهون بتركها خلفهم ليقولوا للناس و العالم: “كنا هنا!” في انحطاط و تجبر و إجرام.

لقد قرأنا في البدايات الحالمة، حين بدأت علاقتنا بالكتاب و الكتابة عن مغامرات اللص الظريف “أرسين لوبين” و حيله الطريفة الممتعة، حيث كان يترك بصمة دالة عليه (بطاقة هوية) في المكان الذي يسطو عليه ليقول إنه كان هنا. في هذه الحالة، كان الرجل حريصاً على حصر دائرة الاتهام حتى لا يُوجه إلى شخص غيره، إلى أن يأتي المفتش “جانيمار” إلى المكان، أو المحقق العظيم “شارلوك هولمز” ثم يبدأ في حل اللغز، حيث يبدأ أولاً في البحث عن البصمات التي تكشف الجاني. تلك الأيام النضرة وذلك الزمن الجميل ، الرجل كان يسرق بحب لأجل العدالة الاجتماعية و قيم الخير، حيث يأخذ من الغني ليعطي الفقير، و في ذلك بالتأكيد جدل و حوار فلسفي أخلاقي لا يتسع المقال للدخول فيه. لكن دعونا نعود إلى هؤلاء المليشيا الذين لا يعرفون القيم أو الأخلاق. بالتأكيد، هم ليسوا كاللص الظريف، لأن عقيدتهم الهدم و الخراب والحريق و هي أهم المظاهر الدالة على أفعالهم.

كان هذا السلوك الموغل في الفاحشة و الإفساد في الأرض و الاستبداد أحد أهم الأسباب التي جعلت السودانيين لا يفضلون حلّاً معهم عبر الحوار، و فضلوا الحسم العسكري. و من ذلك جاءت العبارة التي ما تزال تنطوي على مقتضياتها: “بل بس”. على أية حال، كنا نظن أن اتفاق جدة مع المليشيا في (11) مايو من العام الماضي لأجل حقن دماء السودانيين و استعادة الأمن و السلام سيضع حدّاً لمعاناة السودانيين. لكن من الواضح أن تيار المغبونين من ممارسات المليشيا، تياراً كاسحاً، ماحقاً، لدرجة أن الحديث عن جدة أصبح من الماضي بعد أن أعاد الجيش ترتيب الصفوف و بدأ في استعادة الأرض.

مع ذلك، يظل وجه الحقيقة: في أهمية إدانة هذا السلوك الإجرامي الذي تقوم به المليشيا من حرق لممتلكات الشعب السوداني. كذلك ندعو الناس إلى العودة إلى الديار، لأن فيها عودة للحياة و عودة للوطن الذي حاول أراذل السياسيين اختطافه حين غفل أصحاب الحق من السودانيين دون أن يعلموا أن التاريخ منتبه لا يقبل التدليس أو الاستحمار.

دمتم بخير وعافية.

الثلاثاء 15 أكتوبر 2024
Shglawi55@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى