الثروات المعدنية … التخطيط والرؤى المستقبلية .. بقلم/ د. سيف الدين مكي الطاهر

يُعد قطاع التعدين في السودان من أهم القطاعات الاقتصادية التي سيعتمد عليها مستقبلًا و الذي يبني عليه ترسانته الإقتصادية و المالية لما يتميز به من قوة في الإمكانيات و المقدرات المعدنية و تنوعها و علي نطاق واسع من البلاد عبر أحزمة جيولوجية متنوعة. و قد تصاعد النشاط التعديني بكل أنواعه و مسمياته و بشكل مطرد و متصاعد خلال العقدين السابقين و حتي الآن مما حدا بالدولة لإنشاء وزارة المعادن في عام 2010م منفصلة عن وزارة النفط بعد أن كانتا مجتمعة في وزارة الطاقة و التعدين.
و قد كان لوزارة المعادن و عبر ذراعها الفني الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية دورًا مهمًا في عمليات المسح الجيولوجي و الإستكشافات المعدنية، و تحديث الخارطة الجيولوجية و من ثم توزيع مربعات التعدين (التعدين الكبير Large scale mining والتعدين الصغير Small scale mining) لمعدن الذهب، و كذلك مربعات تعدين للمعادن الأخرى في مناطق الحمولات المعدنية مثل النحاس، و الحديد، والكروم، و المنجنيز، و الفلورايت، و الرمال البيضاء و السوداء، و التلك، و المايكا، و الفوسفات، و الحجر الجيري، و الجبص وغيرها من المعادن، و من ثم وضعت الخارطة الإستثمارية للمعادن و الترويج لها و استقبال الشركات العالمية و الإقليمية و الوطنية للدخول في النشاط التعديني بالسودان وفق نظم ولوائح و قوانين منظمة له و باتفاقيات إمتياز موقعة مابين حكومة السودان ممثلة في وزارة المعادن والشركات.
هذه الاتفاقيات هي ضامنة للحقوق و مؤكدة للواجبات بين الطرفين، و قد بدأت الشركات في أعمالها ما بين مقتدرة و مؤهلة إلى متوسطة الهمة و الاقتدار إلى ضعيفة و مترنحة، و كل ذلك تحكمه اتفاقية الامتياز بموادها و تفاصيلها. فمنها من واصل المسير و حقق الإنجاز و منها ما سقط و تخلف.
ثم كان هناك نشاط تعديني أكثر إنتشارًا و أوسع تمددًا و هو التعدين التقليدي، و الذي استوعب ملايين من المعدنيين في شتّى ولايات السودان و ظهر كنشاط تعديني مهم جدًا لا يمكن تجاوزه لما حققه من إيجابيات رغم جوانبه السالبه و ما يترتب عليها، فقد ساهم بشكل واضح وكبير في زيادة الإنتاج من الذهب و بإيقاع مطّرد و تصاعدي و سريع. و تطور هذا النشاط من حيث الكم و الكيف حتي أضحي أقرب للتعدين المنظم من حيث استخدام الآليات و الماكينات و مدخلات الإنتاج وطرق الإستخلاص والمواد الكيميائية المستعملة وأيضا إنفتاح أسواق التعدين وتطوير الطريقة الإستثمارية لنمط التوسع وزيادة إنتاج الذهب … ومن بقايا مخلفات التعدين التقليدي توفرت كميات كبيرة من مخلفات التعدين (الكرتة Tailling) و التي أجريت عليها دراسات أثبتت احتوائها علي كميات من الذهب مما أدي للتعامل معها باعتبارها مصدر لإنتاج الذهب، و الذي يمكن إستخلاصه عبر تقنيات و طرق حديثة و تقليدية و أصبح من بعد ذلك من الأنشطة المهمة في قطاع التعدين و هو نشاط معالجة مخلفات التعدين.
مع تطور النشاط التعديني المنظم و غير المنظم و انتشاره و تمدده فكرت وزارة المعادن من إنشاء إدارات و وحدات و هياكل لكي تستوعب و تواكب هذا التمدد و الانتشار، و إحكامه و الإحاطة به فنيًا و إداريًا و رقابيًا. فبالإضافة للهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية -الذراع الفني للوزارة- أُنشئت الشركة السودانية للموارد المعدنية كجهة رقابية إدارية، و كذلك شركة (سودامين) كجسم لخدمات التعدين، بالإضافة إلى إدارات الأجهزة النظامية كجسم أمني و تأميني للنشاط التعديني و أيضًا مصفاة الذهب لتعطي القيمة الحقيقية للمنتج من الذهب بالعيار و المواصفات و المعايير و التطابقات العالمية.
بما أن قطاع التعدين باعتباره قطاعًا إسترايتجيًا فهو يعتبر الركيزة الأساسية الداعمة للاقتصاد الوطني بحكم توفر موارده وتنوعها وتوزيعها والتي تسند وتساعد في نهضة وتطوير السودان وجعله في مصاف الدول العظمى، و وضعه في أعلي القائمة الدولية و مستقبلًا، و بالتالي لا بد من التخطيط له بطريقة إستراتيجية علمية و عملية واضحة المعالم محكومة الجوانب و الحلقات، مبرمجة بجداول أمدية محسوبة بالأرقام و رقابة و حوسبة دقيقة و شفيفة، و قوانين ونظم و ضوابط قوية للإستفادة منه بأقصي مايمكن و أنفع مايكون. و على وزارة المعادن تقع المهام الجسام و العبء الثقيل لإدارة هذا القطاع بشكل إحترافي و مهني يجعل من السودان دولة ذات قوة و مكانة في الخارطة العالمية، فالشركات العاملة في قطاع التعدين الكبير و الصغير لا بد أن تلتزم باتفاقيات الإمتياز و تطبيقها حرفيًا و بما جاء فيها نصًا و مضمونًا، مع الرقابة القوية علي أداءها و عملها و إلزامها بموجهات الدولة و خطتها، و تحفيزها علي دخول دائرة الإنتاج مع توفير العوامل المساعدة و البيئة الملائمة لها. و الأهم و الأجدي و الأنفع في قطاع التعدين هو التنوع في إنتاج المعادن، و استغلال الثروات المعدنية بشكل أمثل و أفضل دون الاعتماد علي معدن واحد كالذهب، و عدم تصدير الخامات المعدنية بمحتواها الأصل إلا بعد زيادة التركيز و إضافة قيمة إضافية لها. أيضا التحكم و التدقيق في دخول معدات و مدخلات الإنتاج بكل أنواعها و الإلتزام بالمواصفات المعايير المطلوبة كمّاً و نوعًا حتي لا يكون السودان مستودعًا للنفايات و مخزنًا لمخلفات التعدين.
أما التعدين التقليدي فلا بد من رؤية واضحة لإدارته و نظام محكم و رقابة للسيطرة عليه كنشاط تعديني لا يتعدي الحد المسموح به قانونًا و لا يتجاوز تمدده أفقيًا و عمقًا بما لا يسمح له بذلك، و لا يؤذن باستخدام وسائل و معدات و مدخلات إنتاج و مواد إستخلاص إلا بما يتناسب معه كنشاط تقليدي. و لابد من متابعة الإنتاج و الإحاطة به و رقابة أسواق التعدين لضمان إنسياب المنتج داخل الدائرة الاقتصادية للدولة و تقليل عمليات التهريب و التسريب و التخزين السلبي للذهب مع الاهتمام بالجوانب الأمنية و التأمينية و الاجتماعية و البيئية، و رفع مستوي الوعي و الإرشاد التعديني للمعدنين التقليديين، و يستوجب كل ذلك إنشاء بورصة للمعادن تتماشي مع البورصة العالمية لضمان الاستخواذ علي الناتج وتدويره في الدائرة الإقتصادية، علاوة علي ذلك المحافظة علي البيئة و سلامة المجتمع و فض النزاعات التي تحدث نتيجة انتشار و تمدد التعدين التقليدي ما بين الولايات و المجتمعات المحلية و داخل مربعات إمتياز الشركات.
معالجة مخلفات التعدين كنشاط مهم أيضًا ساهم وبشكل كبير في زيادة إنتاج الذهب خلال الفترة السابقة و لكن تراجع تدريجيًا نتيجة إستهلاك الكميات التراكمية الكبيرة من المخلفات و قلة تركيز معدن الذهب بها و الاعتماد علي المنتج الجديد من المخلفات و متبقي الكميات القديمة ذات التركيز الأضغف، فهو بذلك يتماشي طرديًا مع التعدين التقليدي بتوفر مخلفات التعدين (الكرتة) كمًّا و نوعًا و هذا يتطلب مراجعة معظم مصانع معالجة مخلفات التعدين و التي لها أنواع و أنماط عدة، لذلك يجب الإلتزام بما تشترطه وزارة المعادن لهذه المصانع من مواصفات و معايير و أنظمة بغرض رفع الكفاءة و التمييز و الحد من الطرق البدائية لهذه المعالجة.
و لزيادة القيمة المضافة للمنتج من الذهب و عدم تصديره بتصفية أولية (الشيشنة) و هي تصفية غير معتمدة عالميًا و تقلل من قيمته، فلا بد من إعادة تأهيل مصفاة الذهب بعد أن دمرتها المليشيا في حربها علي السودان و بغرض ممنهج و معلوم، و تشييد مصافاة أخرى بغرض التغطية لتصفية كل المنتج مستقبلاً و للاحتياطات الفنية المحتملة و التوسع المتوقع و المرتقب. هذه المصفاة يجب أن تكون بالمواصفات و التطابقات و الختم و الاعتماد العالمي لضمان منتج من الذهب ذو عيار و مواصفات هي الأعلي لتقييمه عالميًا.
و لكي يستمر قطاع التعدين في تطور مستمر و بخطي ثابتة و خطط و برامج و رؤى ثاقبة تضمن إستغلال الثروات المعدنية بشكل واضح و مقنع يتماشى مع خطة متطلبات الدولة آنيًا و مستقبلًا -لا بد من العمل المتناغم و المنسجم و المحكم بإتقان فيما بين أذرع وزارة المعادن و أركانها و هي الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية الذراع الفني، والشركة السودانية للموارد المعدنية الذراع الرقابي و الإداري، و شركة سودامين لخدمات التعدين، و شركة أرياب و الجهات ذات الصلة و الشأن ممثلة في وزارة المالية و الأجهزة النظامية و الرقابية و الجهات القانونية و الأجهزة الإعلامية و حكومات الولايات و المجتمعات المحلية و غيرها لتعمل وفق خطة و برنامج عمل محكم و متقن و عبر حلقات و دوائر دون تقاطعات، ومن ثم تؤطر في قوالب تنفيذ لتسهل عمليات المتابعة و الرقابة و السيطرة علي كل قطاع التعدين من أول عملية و إلى الخواتيم لتحصد نتائج إيجابية واضحة محققة للأهداف و الخطط المرسومة لذلك. و بهذا يكون قطاع التعدين فعلاً هو الرافد و الساند و الداعم للاقتصاد الوطني، و الضامن لنهضة و تطور السودان باستغلال الثروات المعدنية عبر مراحل زمنية و آماد لضمان استمرارية أطول لمستقبل واعد و حقوق محفوظة للأجيال القادمة بإذن الله.