
يمر السودان بمنعطف تاريخي حرج تتشابك فيه الأزمات السياسية و العسكرية مع تدخلات إقليمية و دولية، مؤخراً كشفت الوقائع عن سباق محموم بين الفاعلين الدوليين للبحث عن حل يضمن إنهاء الحرب، في هذا السياق تعددت المبادرات التي تحاول طي هذا الملف وسط بيئة داخلية مضطربة و مصالح خارجية متشابكة. و رغم الجهود المبذولة يبقى النجاح رهيناً بقدرة السودان على فرض شروطه الوطنية و استغلال التغيّرات على الأرض لتحقيق سلام عادل ومستدام ، وفقا لذلك تبرز عدة مؤشرات دالة علي نجاح هذه المساعي منها الانخفاض النسبي للعمليات العسكرية لتمكين النشاط السياسي و الدبلوماسي .
كذلك الإجراءات المتخذة مؤخراً في فتح ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية إلى بعض المناطق . كذلك نتابع تصاعد التحركات الدبلوماسية من عدد من الدول مثل تركيا، و مصر، و السعودية و موريتانيا لدعم جهودها للوساطة، مما يشير إلى رغبة إقليمية في كسر الجمود السياسي و توجيه الأطراف السودانية نحو الحلول التفاوضية. هذه المؤشرات تدل على أن هناك تفاهمات تجري ربما تُمهّد الطريق نحو إيقاف الحرب التي أوشكت علي الدخول في العام الثالث.
من خلال هذا الواقع بإمكاننا أن نمضي في قراءة استباقية لمسار المبادرات التي بدأت تكشف عن نفسها حيث تبرز المبادرة التركية التي طرحتها تركيا مؤخراً و التي حملها إلى الحكومة السودانية نائب وزير الخارجية التركي، و هي تهدف إلى خفض التوتر بين السودان و الإمارات وصولاً لوقف الحرب، قامت هذه المبادرة بحسب تسريبات إعلامية على ثلاث بنود رئيسية أولها خفض التوتر الإعلامي و السياسي بين البلدين و إعادة النشاط الدبلوماسي. بما يمكن من الانتقال إلى مرحلة أخرى يتم بموجبها وقف الإمارات دعمها العسكري لمليشيا الدعم السريع مقابلها يسحب السودان شكواه ضد الامارات أمام مجلس الأمن الدولي ثم بموجب ذلك يتم الجلوس المباشر بين قيادة البلدين لمناقشة الملفات العالقة.
رغم أن المبادرة تبدو متوازنة اعتمادا علي الانتقال المتدرج في تنفيذ البنود إلا أنها تحتاج إلى معالجة دقيقة، لذلك من الأفضل التعامل معها عبر منهج مرحلي يبدأ بخفض التصعيد الإعلامي كمدخل لتهيئة الأجواء، مع ربط ذلك بالتزام الإمارات الفوري بوقف إمداد المليشيات بالسلاح. ثم تعزيز الحوار حول القضايا العالقة ، على أن يكون ذلك مرتبطًا بخطوات ملموسة على الأرض . وجعل سحب الشكوى من مجلس الأمن خطوة نهائية تُنفذ بعد تحقيق التزامات موثقة من الجانب الإماراتي بشهادة الوسطاء.
أيضا ضمن هذا الحراك تبرز المبادرة المصرية التي أعلن عنها في القاهرة وزير المالية السوداني (جبريل إبراهيم)، حيث تسعى مصر لاستثمار علاقتها الإستراتيجية مع السودان من خلال هذه المبادرة التي تهدف لجمع الأطراف السودانية و الإماراتية على طاولة الحوار بصورة مباشرة، لكن المبادرة تواجه تحديات تتمثل في أنها لم تعلن بصورة رسمية من الجانب المصري كذلك محدودية الدعم الدولي لها بالرغم من ان مصر بدات تفاهمات خلال الفترة الماضية مع دولة تشاد و استضافت مؤتمر للأحزاب السودانية و تجري ترتيبات لإعادة تنظيم جولة ثانية أوسع تشمل جميع الاحزاب السودانية بلا استثناء.
أيضاً في خضم هذه التشابك يبرز المسار الأممي الداعم لمنير جدة الذي يمثل الإطار الدولي الأكثر نضجاً، أقر هذا المسار في 11 مايو من العام 2023 ما عرف بإتفاق الترتيبات الأمنية و إنسانية تبدأ بالإعلان عن وقف إطلاق النار وفتح الممرات الإنسانية ، تعقبها عملية أمنية تخلي بموجبها مليشيا الدعم السريع كافة الأعيان المدنية و منازل المواطنين و تتجمع في معسكرات تمهيداً لدمجها وفقاً لقانون القوات المسلحة السودانية هذا المسار بالرغم من أنه واضح و تقول الحكومة السودانية أنها سلمت الوسطاء خارطة طريق لتنفيذه إلا أنه يواجه صعوبات بسبب ضعف آليات التنفيذ و غياب الثقة بين الأطراف رغماً عن ذلك يبقى هو المسار الأكثر تأهيلاً نظراً لقبوله من جميع الأطراف.
لذلك فإن دمج المبادرات الإقليمية ،خاصة التركية و المصرية، تحت مظلة جدة يضمن تنسيق الجهود و تخفيف التنافس بين الأطراف الدولية، ما يعزز فرص تحقيق تقدما ملموساً ربما يؤدي إلى وقف الحرب في وقت وجيز بالنظر للثقل الدبلوماسي الذي تتمتع به الأطراف مجتمعة. بالرغم من كل هذه المساعي الجيدة و تطلع السودانيون للسلام و استعادة الأمن لكن يظل دور الجيش السوداني في هذه المعادلة مهم جداً في دعم هذه المبادرات بالنظر إلى أهمية تفوقه على الأرض الذي يعد عاملاً حاسماً في تحسين موقف الحكومة خلال أي عملية تفاوضية محتملة فإن أي مفاوضات دون تفوق ميداني ستكون الحكومة عرضة لابتزاز الأطراف الخارجية و المتمردين.
كذلك هناك عامل مهم في تسريع عملية نجاح المبادرات و هو الغطاء الدولي الفاعل، إذ لا يمكن تحقيق سلام مستدام دون دعم دولي وإقليمي حقيقي يضمن دمج المبادرات المختلفة تحت رعاية منبر جدة يوفر منصة موحدة تضمن الالتزام بتسويات تعالج تداعيات الحرب، هذا بالإضافة إلى أهمية الارادة الداخلية المتمثلة في الشعب السوداني و مكوناته السياسية حيث يجب علي الفاعلين السياسيين في الداخل أن يتوافقوا على الحلول السلمية. كذلك على الإعلام الوطني أن يوجّه جميع الجهود نحو الخيارات التي تعزز السلام و الأمن و تحفظ السيادة الوطنية.
لذلك و بحسب ما نراه من وجه الحقيقة فإن مستقبل السلام في السودان يعتمد على قدرة البلاد على توظيف التغيرات الميدانية لصالح السلام و استعادة الأمن، مع إدارة متوازنة للعلاقات الإقليمية و الدولية لأن بلادنا بحاجة لبناء علاقات منتجة تعينها علي بناء مشروع وطني جامع لكل أهل السودان بلا استثناء دون خضوع للإملاءات أو الاطماع الخارجية.
دمتم بخير و عافية.
الإثنين 6 يناير 2025م.
Shglawi55@gmail.com