وجه الحقيقة…المبادرة التركية هل توقف الحرب أم تفكك بنية الدولة؟! .. بقلم/ إبراهيم شقلاوي

وسط تعقيدات المشهد السوداني برزت المبادرة التركية التي تعمل على إيجاد صيغة توافقية بين السودان و الإمارات كخطوة دبلوماسية لإيقاف الحرب، إلا أن تفاصيلها المثيرة للجدل فتحت الباب أمام تساؤلات كبيرة حول أهدافها الحقيقية و ما إذا كانت ستُفضي إلى سلام مستدام أم أنها تحمل في طياتها تهديداً جديداً للسيادة السودانية. في هذا المقال دعونا نناقش البنود المسربة في محاولة لشرحها بصورة أكثر تفصيلا ثم نختم برؤيتنا حول محتوى التسريبات.
المبادرة التي تضمنت وفقاً للتسريبات وقف الدعم الإماراتي للمليشيا مقابل سحب السودان شكواه الدولية تبدو ظاهرياً مقترحاً لتخفيف التوتر ، غير أن إسقاط الشكوى يعني فقدان السودان ورقة ضغط قانونية و دبلوماسية ضرورية لإدانة الأطراف المتورطة في زعزعة أمنه مما يترك البلاد مكشوفة أمام احتمالات استئناف الدعم العسكري بشكل غير مباشر.
أما ما يتعلق بخفض التصعيد الإعلامي و فتح قنوات تواصل بين السودان و الإمارات هذا جيد بالرغم من أن هذه الخطوات لا تخلو من مخاطرة. التجارب السابقة أثبتت أن الانخراط في حوارات غير مضمونة النتائج قد يُستخدم لتعزيز النفوذ الخارجي خاصة إذا لم تُرافقه آليات صارمة لضمان احترام السيادة الوطنية.
و فيما يخص بند إعادة الإعمار فإن تشكيل لجنة مشتركة بتمويل إماراتي و تركي يحمل في ظاهره بُعداً تنموياً، لكنه عملياً قد يُفضي إلى رهن القطاعات الحيوية لسيطرة الأطراف الممولة. البنية التحتية ليست مجرد مشاريع اقتصادية، بل هي أدوات استراتيجية يمكن استخدامها للتأثير على القرارات السيادية للدولة ما يجعل من الضروري التفكير ملياً قبل قبول أي ترتيبات قد تُفضي إلى تقليص السيطرة السودانية على مقدراتها.
من النقاط الأكثر إثارة للجدل في المبادرة اقتراح دمج المليشيا في الجيش النظامي بدعم خارجي. دمج مثل هذه القوات دون معايير واضحة و دون محاسبة على الانتهاكات السابقة يهدد بتقويض تماسك المؤسسة العسكرية، و يفتح الباب أمام انقسامات داخلية قد تُضعف القدرة على مواجهة التحديات الأمنية و ربما تقود إلى ثورة شعبية للخلاص من الجميع. علاوة على ذلك، الدعم الخارجي لهذه العملية قد يعزز من ولاءات مزدوجة داخل الجيش، و هو ما يمثل خطراً على الأمن القومي السوداني و هذا مؤكد يعيد البلاد إلى ما قبل 15 ابريل 2023 م.
و في الجانب السياسي الحديث عن إشراك المدنيين عبر دعم مجموعات محددة مثل تنسيقية القوى المدنية “تقدم” يعكس نية لتوجيه العملية السياسية بما يخدم أجندات خارجية بدلاً من السعي إلى تمثيل عادل و شامل لكل القوى الوطنية عبر تفويض انتخابي، لذلك غياب التوافق الحقيقي “مشطوها بقملها” قد يؤدي إلى إضعاف الجبهة الداخلية مما يجعل السودان أكثر عرضة للتدخلات الإقليمية و الدولية.
كذلك التسريبات التي تناولت تنظيم دخول السلاح تحت رقابة دولية تضيف بُعداً آخر من المخاطر. السيطرة الخارجية على البلاد ، خاصة إذا شاركت فيها دول مجاورة ، قد تؤدي إلى تقليص قدرة السودان على تأمين حدوده و إدارة ملفه الأمني بفاعلية. كذلك لا ننسي أن السودان يمتلك منظومة صناعات دفاعية هذا البند يجعلها محاصرة ضمنياً و خاضعة لإرادة الدول.
و فيما يتعلق بالعفو العام و برامج المصالحة الوطنية فإن التسويات التي تتجاهل تحقيق العدالة تمثل خطراً كبيراً على النسيج الاجتماعي . إصدار عفو يشمل كل الأطراف دون وضع آليات واضحة لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات السابقة تجاه المواطنين قد يُفضي إلى تعزيز ثقافة الإفلات من العقاب ، وهو ما يعيد إنتاج الأزمة بأشكال مختلفة .
ما تقدمه المبادرة التركية قد يبدو في ظاهره خطوة نحو السلام، لكنه في جوهره يحمل شروطاً قد تُقيّد الإرادة الوطنية و تفتح الباب أمام وصاية خارجية جديدة. السودان يواجه اليوم تحدياً وجودياً لا يتمثل فقط في إنهاء الحرب، بل في ضمان أن تكون حلول الأزمة نابعة من إرادة وطنية تحفظ سيادة البلاد وتحقق تطلعات شعبها. القوات المسلحة السودانية ، التي تمثل العمود الفقري للأمن والسيادة ، لن تقبل بأي اتفاق يُملي عليها شروطًا مذلة أو يُعرض وحدة البلاد للخطر .
كذلك السودانيون الذين قدموا التضحيات في سبيل كرامتهم واستقلالهم لن يرضوا بحلول تُفرض عليهم من الخارج . لذلك فالحفاظ على وحدة البلاد وأمنها يتطلب موقفاً حازماً يُرفض فيه أي تدخل يُضعف سيادة الدولة أو يمس كرامة مواطنيها، كما أن حديث الفريق أول ياسر العطا مساعد أول قائد الجيش عضو المجلس السيادي في خطاب الاستقلال بحسب إعلام محلي وضع إطار واضح لأي عملية تفاوضية محتملة و جعل اتفاق جدة للترتيبات الأمنية و الإنسانية الموقع في 11 مايو من العام 2023م أساسا للحل و هو ما يتطلع لتنفيذه السودانيين لاستعادة الأمن و تحقيق السلام.
عليه و بحسب ما نراه من وجه الحقيقة يمكننا القول إن تسريبات المبادرة التركية ،سواء أكانت حقيقية أم ملفقة، تعكس أبعاداً سياسية و أمنية معقدة تُلقي بظلالها على المشهد السوداني. فمن جهة قد تمثل هذه التسريبات محاولة لفرض سقف تفاوضي مرتفع يختبر قدرة الدولة على الصمود أمام ضغوط داخلية و خارجية، و ربما لاستكشاف مواقف الفاعلين السياسيين في الداخل السوداني و إيجاد مساحة لتفاهمات مستقبلية. و من جهة أخرى قد تكون أداة لإعاقة أي تقدم في المفاوضات الرامية لإنهاء الحرب، مما يُبقي البلاد في دائرة الاستنزاف المستمر حيث تتآكل مواردها و تتعمق أزماتها . كذلك يُحتمل أن تعكس هذه التسريبات إرادة أطراف تسعى لإضعاف الدولة عبر إنهاك قوات الجيش و القوات النظامية الأخرى والمقاومة الشعبية و تفكيك بنيتها الأمنية بما يخدم أهدافاً استراتيجية تتجاوز المصالح الوطنية، و تعيد تشكيل موازين القوى لصالح قوى دولية و إقليمية ترى في السودان مسرحاً لتحقيق طموحاتها و فرض اجندتها لذلك دعونا ننتظر.
دمتم بخير و عافية.
الأربعاء 8 يناير 2025م.
Shglawi55@gmail.com