السودان وإيران التقاء حضارات …بقلم اللواء (م) مازن محمد اسماعيل

⚫ يقول المهاتما غاندي: كلما قام شعب الهند بالاتحاد ضد الاستعمار الانجليزي، يقوم الانجليز بذبح بقرة و رميها بالطريق بين الهندوس و المسلمين، فينشغلون بالصراع بينهم و يتركون الاستعمار، و هي نفس قصة الصراع القديم المُتجدِّد بين السنة والشيعة، فيما يتطوع البعض من الطرفين ليلعبوا دور البقرة، و الحقيقة التي لا جدال فيها هي أنه ما كان محمدٌ ﷺ سُنِّياً و لا شيعياً و لكنه كان حنيفاً مُسلماً و ما كان من المشركين، و كذلك كان المهاجرون و الأنصار الذين رضي الله عنهم، و لا يعلم أحدٌ اليوم على وجه اليقين من هو عبدالله بن سبأ، و لا حقيقة ثوار مصر، و المتتبع لتاريخ ذلك سيجد كيف تلاعبت أصابع اليهود و أولياؤهم المنافقون في تلك الأحداث، و الدارس المُدقِّق سيقف على تغلغل التوراة المُحرَّفة و التلمود في مسارب العقائد و الفقه السُّنِّي والشيعي على السواء، و لسنا هنا في معرض النقد المذهبي أو الفكري لكلا الطائفتين بقدر ما أننا ننوه فقط بسخافة هذا التصارع من الناحية الفكرية، و وخامته من الناحية الجيوسياسية، و يكفي من ذلك أن ذات الذين ينتقدون مواقف الدول الشيعية تاريخياً في بعض مواقفها التي اصطفت فيها مع أعداء الإسلام ضد المسلمين السنة لا ينبسون ببنت شفة عن الدول السُّنية التي أبادت نسل المصطفىﷺ و سبت نساءهم واستباحت المدينة المنورة، و لا يقفون على المواقف التاريخية لبعض دول السنة في اصطفافها مع أعداء الإسلام ضد المسلمين السنة (و ليس في الأندلس شيعة)، بل و يصيبهم صمت القبور تجاه مواقف الدول السنية التي تقف اليوم كتفاً بكتف مع الصليبيين و الصهاينة في خندقٍ واحدٍ لسحق إخوانهم المسلمين السنة في غزة و غيرها، و المحتجون اليوم بما تفعله إيران بأهل السنة على أرضها .. فيقرأ ما فعلته الدول السنية بالشيعة من زمان معاوية و حتى اليوم في دولهم ثم لِيقطَع فلينظر هل يُذهِبنَّ كيدُه ما يغيظ.

⚫ إن المذاهب العقائدية و الفقهية السنية اليوم بالعشرات، وجماعاتهم الإسلامية السنية بالمئات، و بعض هذه المذاهب و الجماعات يُكفِّرون غيرهم من السنة الذين لا يتفقون معهم ناهيك عن الشيعة، و يزعمون لأنفسهم بأنهم الفرقة الوحيدة الناجية و كل من عداهم -بمن فيهم المسلمين السنة الآخرين- من أهل النار الواجب استتابتهم و قتلهم ودفنهم في غير مقابر المسلمين… و هو ذات الحال الذي عليه الشيعة و بعض جماعاتهم اليوم، و لا شك أن ذلك كله لا علاقة له بأمر الله بالاعتصام و عدم التفرقة، و لا علاقة له بنهج الرسول ﷺ (من صلَّى صلاتنا، و استقبل قبلتنا، و أكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله و ذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته) … و اليوم قد توحد الصليبيون من مختلف القارات بمختلف مذاهبهم و طوائفهم، و تحالفوا مع اليهود و الصهاينة بكل جماعاتهم و فِرَقهم، و جمعوا في صفوفهم الملحدين و المنافقين و كثيراً من المسلمين، ليرموا بيضة الإسلام عن قوسٍ واحدة، و إن المتفكر في ذلك كله ليعجب إلى أي مِلَّةٍ ينتمي أولئك الذين لا يزالون يجأرون في كل حينٍ و آن بضرورة الشقاق و الصراع مع إيران و جماعات الشيعة في لبنان سوريا و اليمن و العراق و الذين يقفون صفاً واحداً في مناصرة أهل السنة من حماس و شهداء الأقصى و السودان و لا يخفون شماتتهم بأي مصابٍ يصيب أهل المقاومة.

⚫ من الحقائق التاريخية التي يجب تذكرها هي أن الدولة الكوشية كانت نِدَّاً لغيرها من الحضارات الفارسية و البابلية و الإغريقية يوم لم يكن شئٌ اسمه العرب، و أن جيش الدولة الفاطمية التي حكمت مصر كانوا من السودان، و لايزال في السودان أكثر الأسماء بعد محمدٍ علي و كرار و حيدر و حسن و حسين والباقر و زين العابدين، و حتى عهد طفولتنا كان أطفال الشمال يجتلدون بجريد النخل في يومٍ يُسمُّونه يوم (اليوب يوب) (عاشوراء)، و من حقائق الأمس القريب أن السودانيين كانوا من أوائل الذين فرحوا بالثورة الإسلامية في إيران، ومن ذلك قصيدة د. سيد الخطيب “دوى صوتك شق الظلمة و انتبهت كل الآذان**و انفتحت مُقَلٌ تكحلها شمسٌ تشرق من إيران*” ، و كانت الزياراة الشعبية التي تمت آنذاك هي المرتكز الذي اتكأ عليه الاصطفاف الإيراني اليوم مع السودان في حربه ضد الإمبريالية الغربية و العمالة الإماراتية و المرتزقة الجنجويدية، و هذه جذورٌ لم تتأثر بقطع العلاقات السودانية الإيرانية حين تم اختطاف قرارنا و سيادتنا خليجياً، و الدعوة اليوم للسودانيين واجبةٌ لتأمل مواقف الدول العربية السنية تجاه السودان و مواقف المحور الإيراني الشيعي تجاه السودان و مستضعفي السنة في كل مكان.

⚫إن مواقف السودان اليوم يجب أن تفرضها ظروفه و مصالحه الجيوسياسية، و التي تتوافق مع قيمه الإسلامية و تاريخه الحضاري و واقعه الأمني و السياسي و الاقتصادي و الدبلوماسي، وتموضعه على المستوى الإقليمي و الدولي، ولا ينبغي في ذلك الركون إلى ضحالة الرؤى المذهبية و الفقهية أو تفاهة المنطلقات العرقية و القومية، فالعرب قد يستشعرون ضآلة حجمهم الحضاري بالمقارنة مع الفرس (هناك حضارة إسلامية و لا يوجد شئ اسمه حضارة عربية) ، و لكن ذلك ليس حالنا في السودان و قد كان لنا شرف السبق الحضاري على العالمين … و لانزال، و لكننا للإنصاف و الحقيقة نقول: ليس سودان اليوم هو كوش، و ليست إيران اليوم هي الدولة الصفوية، و ليس شيعة اليوم هم شيعة صِفّين، وليس سُنَّة اليوم هم جند يزيد و شمَّر بن ذي الجوشن في كربلاء .. و صفوة القول لوحدة المسلمين و حفظ بيضة الدين هو أن نعمل معاً فيما اتفقنا فيه و يعذر بعضُنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.

⚫ قدَّر الله اليوم اصطفافاً دولياً تقف فيه القوى الصهيوغربية بإزاء قوى المشرق الذي تتصدره الصين و روسيا و إيران في جانبٍ آخر، و الصدام بين هذه القوى حتمي و مصيري، و الدول العربية بتأرجح مواقفها بين العمالة و الخنوع، و ضعف عزمها عن الانتصار لنفسها قد رضيت بأن تكون رِجرجةً بين ذلك حتى غدت بلادها ميداناً لهذا الصراع و ستكون شعوبها وقوداً لتلكم المعارك، و السودان اليوم لا يتمتع برفاهية الاختيار فضلاً عن أن الفرصة قد واتته ليجد لنفسه نصيراً على القوى الصهيوغربية التي ظلت تكيد له العداء على امتدادٍ يزيد عن قرنين من الزمان، و سيمضي السودان في تحالفاته الجيواستراتيجية و حربه الوجودية بعِزِّ عزيزٍ وذُلِّ ذليلٍ حتى يستعيد كرامته و سيادته و كامل حقوقه و مكانته التي هو جديرٌ بها و سبحان من كتب القتال و هو كُرهٌ فيه خير.

⚫ يقول علي الوردي عليه رحمة الله: كنت في أمريكا، و نشب نزاع بين المسلمين عن علي ومعاوية أيهم أحقّ بالخلافة ، و كانت الأعصاب متوترة، فسألني صديقي الأمريكي عن علي و معاوية هل يتنافسان الآن على الرئاسة عندكم؟ فقلت له: إنهم كانوا يتنافسون قبل (١٣٠٠) سنة!! ، فضحك الأمريكي حتى كاد يستلقي على قفاه و ضحكت معه ضحكةً فيها معنى البكاء.
١٥ أكتوبر ٢٠٢٤م

Exit mobile version