كما نعلم بدأت الأجواء متوترة عقب عودة وفد الحكومة من مباحثات جدة مع وفد الولايات المتحدة الأمريكية، و التي انخرطت بعدها الحكومة في سلسلة من الاجتماعات واللقاءات مع عدد من أعضاء السلك الدبلوماسي فيما فُهم أنّها بدأت تعد لمعركة دبلوماسية قادمة حيث التقى عضو مجلس السيادة مساعد القائد العام الفريق إبراهيم جابر سفراء كل من روسيا، والصين وقطر، و قدّم لهم شرحاً حول الأوضاع و الجهود التي تقوم بها الحكومة السودانية من أجل إحلال السلام والإستقرار بالبلاد، و حدّثهم عن الدعوة الأمريكية لمفاوضات السلام بجنيف، و مخرجات اللقاء التشاوري بين الوفد الحكومي والوفد الأمريكي الذي جرى بجدة، كذلك أكّد لهم استعداد السودان لإعداد خارطة طريق لتنفيذ اتفاق جدة ومن ثم مناقشة رؤية السودان لإستئناف أي محادثات من شأنها الوصول إلى سلام.
بحديث جابر عن إعداد خارطة طريق لتنفيذ اتفاق جدة ربما تكون أولى الإشارات الذكية التي أرسلتها الحكومة عبر هذا الثلاثي الذي يمثل دول ظلت حليفة للسودان، ويمكنها تغيير المعادلة إذا تدخَّلت بصورة مباشرة في أمر إيقاف الحرب، وفي ذلك إشارة إلى إمكانية دعم منبر جدة بدول يثق فيها السودان أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية.
كذلك اجتمع الفريق كباشي عضو السيادي و نائب القائد العام للجيش بعدد من السفراء منهم سفير المغرب وماليزيا، و أطلعهم على ذات التطورات مُعلناً عن ذات الموقف الذي قال به جابر.
و حتى يبدو أن هناك إنسجام مواقف بين السيادي و الوزراء اجتمع أيضاً مجلس الوزراء، حيث أكّد رئيس المجلس وزير شئون مجلس الوزير المكلف عثمان حسين في اجتماع مجلس الوزراء الإتحادي بعد استماعهم لتقرير رئيس وفد المباحثات (أبو نمو) معلناً تمسّكهم بمخرجات اتفاق جدة والتأكيد على انفتاح السودان للحوار تأسياً بذلك.
و حتى تبدو الحكومة متمسكة بموقفها جاء أيضا خطاب الرئيس البرهان بمناسبة عيد الجيش الذي تزامن مع انطلاق المفاوضات بالإعلان الواضح عن موقف الحكومة السودانية: “لن نساوم أو نهادن في حقوق الشعب المشروعة في استعادة الأمن والاستقرار والقضاء على العدوان الغادر مهما بلغ حجم التضحيات”، كذلك أكّد على أن طريق السلام أو وقف الحرب واضح وهو تطبيق ما اتفقنا عليه في جدة في مايو (2023)م، و لا وقف للعمليات بدون انسحاب و خروج آخر مليشي من المدن والقرى التي استباحوها واستعمروا أهلها.
لا ننسى زيارة وزير الخارجية السوداني حسين عوض إلي ماليزيا، و التي سلّم فيها ملك البلاد و رئيس وزرائها رسالة من الرئيس البرهان، و حديثه خلال مشاركته في مؤتمر السودان الذي نظّمته السفارة السودانية في كوالالمبور بالتعاون مع المعهد الدولي للدراسات الإسلامية وبيت الأمانة عن أن أي حديث للسلام في السودان بعيداً عن ماتم الاتفاق عليه في منبر جدة يعتبر حديث غير جاد للوصول لحلول مرضية للشعب السوداني ولحكومته.
كل ذلك النشاط المتسارع الذي قامت به الحكومة السودانية مثّل ضغطاً جيّداً على الوساطة الأمريكية، فقط كان ينقصه خروج الشعب السوداني في تظاهرات معبّرة عن هذا الموقف، لولا الظروف الأمنية التي تمر بها البلاد لمثل ذلك فارقاً معتَبَراً لدى المحيط الإقليمي والدولي.
الذي يهمنا الآن هو أن الموقف السوداني ظل واضحاً مسنوداً برغبة الشعب في السلام العادل الذي لايعيد إنتاج الأزمة، أو تعود بموجبه قوات الدعم السريع المتمردة إلى الساحة السودانية من جديد في أي مستوى من مستويات الحكم بعد كل هذه الجرائم الإنسانية التي ارتكبتها هذه القوات في حق الشعب السوداني التي وصفت بأنها (جهادية) أخرى في إشارة إلى حروب الخليفة (عبد الله التعايشي) في القرن الماضي ضد أهل الوسط والشمال في السودان والتي مازالت شاخصة في ذاكرة تلك المناطق. من ناحية أخرى وعلى ضوء ذلك مضت الولايات المتحدة الأمريكية في إقامة مؤتمر جنيف بمن حضر، و كان (بيريللو) حسب وكالات قد أعلن بدء الجلسة الافتتاحية مع الشركاء الدوليين والتقنيين الممثلين لتلك الدول والمنظمات الدولية والاقليمية، بالتركيز على ضمان التزام الأطراف بتعهدات جدة وتنفيذها، وأن يحترم المتحاربون القانون الإنساني الدولي ويسمحوا بدخول المساعدات الإنسانية و وقف إطلاق النار. هذا الحديث الصادر من المبعوث الأميركي يوضح إشارة واضحة إلى الالتزام بالتأسيس على منبر جدة وما نتج عنه من إتفاق متعلق بالترتيبات الأمنية والانسانية، و لتأكيد ذلك أيضاً صدر بيان مشترك عن مفاوضات جنيف تبنّته كلٌّ من الولايات المتحدة، وسويسرا، والمملكة العربية السعودية، و مصر، و الإمارات العربية المتحدة، و الاتحاد الأفريقي و الأمم المتحدة.، تعهدت بالعمل بجدّ في سويسرا و بذل المزيد من الجهود الدبلوماسية المكثّفة لدعم السودان من أجل إيصال الإغاثة، و وقف الأعمال العدائية، وتنفيذ نتائج اجتماعات جدة بجانب الامتثال للقانون الإنساني الدولي. إذاً نحن أمام موقف واضح من جميع الأطراف تتوقف عليه الخطوة التالية المنتظرة من الحكومة السودانية، هل ما أُعلن يعد كافياً لانخراطها في المفاوضات، في تقديري أن ذلك كافٍ بل التأخير الذي اعتمدته الحكومة من ناحية تكتيكية يُعد جيداً للمحافظة على الموقف التفاوضي والمحافظة على الجبهة الداخلية التي ظلت موحدة خلف القيادة، كما أنها حشدت تأييد جيد لموقفها من قبل الأصدقاء والأشقّاء وهذا بدا واضحاً من خلال زيارة رئيس مجلس السيادة لرواندا وبورندي، ولقاء وزير الخارجية المصري على هامش هذه الزيارات، بجانب زيارات قام بها نائبه مالك عقار إلى موزمبيق، كذلك الاتصالات التي استقبلها الرئيس البرهان من عدد من الدول تركيا، الصين، قطر و المملكة العربية السعودية، و لقائه بمكتبه بالأمس سفير النرويج الذي جاء وسيطاً لدفع السودان للمشاركة في جنيف.
آخر هذه الاتصالات لم تتحدث عنه الحكومة السودانية حتى لحظة كتابة هذا المقال و الذي كشفت عنه الخارجية الأمريكية حسب وكالات جرى اتصال فجر اليوم الخميس أجراه (أنتوني بلينكن) مع الرئيس البرهان للمشاركة في مفاوضات سويسرا لتنفيذ كامل لإعلان جدة للالتزام بحماية المدنيين، هذه الاتصالات والاجتماعات المكثفة التي جرت خلال اليومين الماضيين و التي حالت دون مخاطبة الرئيس البرهان للشعب السوداني في عيد الجيش تؤكد أن الحكومة السودانية حسّنت موقفها التفاوضي تماماً وحشدت له التأييد اللازم في حال اتخذت قرار بالمشاركة في جنيف، و هذا ما نتوقعه فقد بات الطريق ممهداً أكثر من ذي قبل كما يبدو، فقط يتبقّى الذهاب و الانخراط في المفاوضات وفقاً لهذه المُعطيات، إذا التزمت قوات الدعم السريع المتمردة باتفاق جدة -حسب ما أعلن الوسطاء في بيانهم الصادر في مفتتح الجلسات- واستطاعوا الايفاء بتعهداتهم يمكننا أن نستمر لإكمال أجندة التفاوض لتحقيق السلام، غير ذلك تكون تجربة جيدة أكدت حرص الحكومة على السلام العادل الذي يحفظ لشعبها حقوقه وكرامته، و يحفظ للجيش علو كعبه كضامن أوحد لوحدة الدولة السودانية و مؤسساتها.
هذا وجه الحقيقة الذي ينبغي أن نعمل جميعاً لأجله لتنعم بلادنا بالأمن والسلام والاستقرار، و هذا ما يجعلنا نؤكد أن الخرطوم باتت أقرب إلى جنيف لأجل تحقيق السلام وفقا لهذه المعطيات ما لم تستجد أسباب أخرى.
دمتم بخير وعافية..
الخميس 15 أغسطس 2024 م Shglawi55@gmail.com