في مقال سابق أكدنا على أن الحكومة السودانية وضعت اشتراطات محددة لقبولها الذهاب إلى منبر التفاوض في العاصمة السويسرية جنيف في الرابع عشر من أغسطس الجاري للجلوس مع قوات الدعم السريع المتمردة، هذه الاشتراطات تمثلت في أربع نقاط جوهرية تتعلق بالسيادة الوطنية أرسلتها الحكومة السودانية عبر وزارة الخارجية الي الوسيط الأمريكي بعد أن شكرته على الجهود المخلصة لوقف الحرب وأكدت حرصها للذهاب نحو السلام، ملخصها كان يتمثل في ضرورة الاعتراف بنظام الحكم القائم باعتباره يمثل الشرعية التي ظل السودان يتعامل بها مع جميع دول العالم وكافة المنابر الاقليمية والدولية، كذلك ضرورة الالتزام بما تم الإتفاق عليه في منبر جدة مع القوات المتمردة والذي أقر خروجها من الأعيان المدنية وبيوت المواطنين و فتح المسارات الآمنة لوصول المساعدات الإنسانية، كذلك أشارت الحكومة الي تمسكها بوقف إطلاق النار كأولوية، كما أكدت الحكومة على ضرورة التشاور معها حول شكل وأجندة المفاوضات والأطراف التي تشارك فيها أو تحضرها كذلك طلبت قيام اجتماع مع الولايات المتحدة الأمريكية للترتيب الجيد للمفاوضات.
كل تلك الشروط حسب ما نقل بالأمس موقع قناة الشرق الإخبارية عن مصدر بمجلس السيادة السوداني تمت الإجابة عليها والالتزام بها من قبل الخارجية الأمريكية، كما جري مساء ذات اليوم أيضاً اتصال بين الرئيس البرهان ووزير الخارجية الأمريكي (انتوني بلينكن) حيث قال بعدها الرئيس البرهان في تغريدة على منصة إكس (تلقيت اتصالاً من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن تحدثت معه عن ضرورة معالجة شواغل الحكومة السودانية قبل بدء أي مفاوضات وأبلغته بأن المليشيا المتمردة تحاصر وتهاجم الفاشر وتمنع مرور الغذاء لنازحي معسكر زمزم).
أعتبر المراقبين إستجابة الخارجية الأمريكية لشواغل الحكومة السودانية كما سماها رئيس مجلس السيادة بمثابة حرص من الولايات المتحدة الأمريكية على إقامة المفاوضات في توقيتها المعلن..؛ وذلك لأسباب كثيرة منها أن الحرب قد وصلت مرحلة من المعاناة والاستنزاف تأثر بها السودانيون وحكومتهم والإقليم من حولهم والداعمين للتمرد .. الذين لم يكونوا يضعون في الحسبان صمود الجيش السوداني وإفشاله لمخطط الإنقلاب على نظام الحكم وتهجير الناس .. حيث بدأ يتكشف لهم.. أنها حرب خاسرة لم تحقق أهدافها في التمكين للقوات المتمردة واحلالها بديلا للجيش.. بجانب إقامة الدولة العلمانية وتعطيل المؤسسات القانونية والعدلية.. تلك كانت تعتبر أهم أهداف التغيير المدعوم إقليميا..و الذي نتج عنه الإطاحة بنظام حكم البشير في العام (2019)م.
هذا بجانب امتداد تأثير الحرب في السودان على النزاعات المسلحة و الأمن الإقليمي لجوار هذا البلد، ولأفريقيا شمال الصحراء التي تحرص أمريكا على الإبقاء عليها هادئة في هذه المرحلة بعد تغييرات واسعة شملت معظم الحكومات في المنطقة خلال الفترة الماضية، مما شجع الوجود الروسي والصيني للتحرك لصالح أجندته، وفي ذلك منافسة لأمريكا على النفوذ في هذه البلدان المكتنزة بالموارد والثروات هذا بجانب مجاعة محتملة ذات تأثيرات اقتصادية واجتماعية واسعة جراء حرب السودان التي أثرت أيضاً على حركة البضائع ونقل السلع الاستراتيجية في المناطق الحدودية، إذ أن معظمها يعتمد على موانئ جافة ونقاط ساخنة متحركة بينها وبين السودان في الوقود والإمداد الغذائي والنشاط التجاري توقفت الآن عن العمل تماماً بعد اندلاع الحرب.
كذلك يقول بعض المراقبين أن الحرص الأمريكي على قيام المفاوضات وطي ملف الحرب في السودان.. مرتبط أرتباط مباشر بقيام الإنتخابات الأمريكية في نوفمبر القادم .. حيث البحث عن مكاسب سياسية قبل قيامها.. في جانب احتواء النزاعات وخفض التوتر في السودان والمنطقة لا سيّما الحساسية البالغة التي تجدها دارفور لدي الكتلة السوداء، كذلك لتمويل الحملة الانتخابية للمرشحة الديمقراطية (كامالا هاريس)، و ربما تمويل إعادة بناء ما دمّرته الحرب بواسطة دولة الإمارات العربية المتحدة التي تأتي للمفاوضات كمراقب ضامن لتنفيذ وتمويل أي إتفاق محتمل ينتج عن المفاوضات ومن ثم ضمان لدخول شركات أمريكية وغربية لإعادة الإعمار.
في السياق هناك إشارات مهمة أرسلها المبعوث الأمريكي الخاص للسودان( توم بيريلو) عبر برنامج (تنوير) أول أمس على منصة إكس، الرجل قال بوضوح: “لا مستقبل للدعم السريع في السودان”، وهذه الإشارة الذكية تخاطب الداخل السوداني الذي حزم أمره على ذلك، كذلك قال إن محادثات سويسرا ستُبني على منبر جدة باعتباره الأساس و سوف يكون هناك وجود وسائل لضمان تنفيذ الاتفاق بمشاركة دولة الإمارات، ومصر، والإتحاد الإفريقي ومنظمة إيقاد حتى يكونوا جزء من الاتفاق.
أيضاً هذه إشارة جيدة تبرر وجود المراقبين وتقضي على هواجس الداخل السوداني الذي يحمّل الإمارات مسؤولية إندلاع الحرب وتمويلها و الذي يخشى أن تكون هناك إملاءات على أي طرف تؤثر في نتيجة المفاوضات، كما أشار (بيريلو) إشارة واضحة إلي أنه غير مطروح مشاركة الأحزاب السياسية والمجموعات المدنية في محادثات سويسرا بسبب فصل المسار السياسي عن المسار العسكري وهذا ما ظل يؤكد عليه الجيش السوداني بصورة مستمرة، إذ أن الشأن الأمني و الإنساني مسؤولية الحكومة، أما الشأن السياسي فهو من اختصاص الأحزاب وسبق أن تم التوافق على ذلك في مؤتمر القاهرة للأحزاب والكيانات السياسية الشهر الماضي، وكذلك في مؤتمر أديس أبابا في ذات الشهر تحت رعاية الإتحاد الأفريقي الذي أقر مشاركة كافة الأحزاب السياسية والكيانات في حوار سوداني سوداني داخل السودان كما أقرّ كذلك حكومة كفاءات وطنية مدنية تُعني بتسيير الجهاز التنفيذي للدولة إلى حين قيام الانتخابات.
كل ذلك يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الحكومة السودانية ماضية إلى جنيف في الرابع عشر من أغسطس الجاري وفقاً لهذه الضمانات وهذه التفاهمات، لذلك عليها الخروج لمخاطبة الشعب السوداني و إعلان ماتم الاتفاق عليه مع الوسيط الأمريكي قبل الذهاب، والإجابة على تساؤلات هل سيشارك الوفد السوداني باسم الحكومة السودانية على أن يكون الجيش جزء منه مع التأكيد على أن التفاوض سوف يشمل تنفيذ بند الترتيبات الأمنية وتأمين المسارات الإنسانية لوصول الغذاء والدواء للناس والذي يسبقه وقف دائم لإطلاق النار.
في تقديري أي ترتيبات غير تلك سوف يكون أمر الإقناع بها للرأي العام السوداني صعباً، لذلك لا أتوقع أن يُكتب لها النجاح مهما حاولت الأطراف التحايل على رغبة الشعب السوداني في السلام العادل الذي يضمن عدم العودة للحرب من جديد فقد ظللنا نؤكد أن كلفة الحرب عالية مهما كانت قدرات الجيش وصموده لخوضها فالسلام أرخص ثمناً، لذلك يظل السلام هدفا يجب أن نعمل على إقراره جميعا ودفع جميع الأطراف لتحقيقيه، سلام يحفظ للبلاد أمنها وسيادتها وينهض بها كما يحفظ للمواطن دمه وماله وعرضه خلاف ذلك إبقوا على خياراتكم (الممطورة ما بتابي الرش) و (الجاي عليك مشمر قابلوا عريان) مثل سوداني.
دمتم بخير وعافية..
الثلاثاء 6/اغسطس /2024 م. Shglawi55@gmail.com