أصل القضية … المطرقة والإبرة: ترويض الخصوم وبناء الجسور من قلب الأزمات .. بقلم/ محمد أحمد أبوبكر

في أوج التحديات العاصفة، وبين ساحة الحرب وميدان الدبلوماسية، اختار السودان طريقًا غير مألوف للنجاة من براثن الأزمات التي أرادت تمزيقه. عندما تكالبت عليه المليشيات الممولة و المدعومة من قوى خارجية، لم يكن الرد السوداني مجرد رد عسكري مباشر. بل كان استجابة ذكية متوازنة تجمع بين القوة الهادئة والحكمة الصامتة. إنها قصة السودان الذي اختار الحفر بالإبرة للقضاء على التمرد في الداخل، وفي الوقت ذاته، مد جسور الدبلوماسية والمورد مع ذات الدول التي كانت جزءًا من اللعبة.
الحفر بالإبرة: إستراتيجية الصبر و الترويض:
بينما كان البعض يتوقع من السودان رد فعل قوي و فوري، جاءت إستراتيجية الحفر بالإبرة لتُظهر وجهًا مختلفًا للقوة. استبدل السودان المواجهة المباشرة و الشرسة بالصبر و التكتيك المتقن. هنا لم تكن القوة في السرعة، بل في المثابرة، و كما يحفر المرء بإبرة دقيقة في صخر صلب هكذا تم ترويض التمردات المسلحة.
كانت هذه الإستراتيجية تعتمد على إضعاف العدو شيئًا فشيئًا، حتى تنهار قواه من الداخل دون الحاجة إلى تدمير البلاد. و كما يُقال، “من يحفر بإبرة، يعرف أن الزمن هو السلاح الأقوى”. السودان كان يعرف جيدًا أنه ليس في حاجة إلى مواجهة مفتوحة تُرهقه بل إلى خطوات مدروسة تحقق النصر دون تكلفة كبيرة.
الجسر و المورد: احتواء الأعداء بدلًا من تدميرهم:
وفي الوقت الذي كان البعض يتوقع من السودان قطع العلاقات مع الدول الداعمة للمليشيات، مثل الإمارات و تشاد، جاءت المفاجأة. السودان، و هو في قلب معركة الدفاع عن سيادته، لم يُغلق أبواب الحوار بل طبق إستراتيجية الجسر و المورد، تلك الإستراتيجية التي تقوم على مد الجسور بدلًا من بناء الحواجز. فبينما كان يكسح التمرد في الداخل، كان السودان يبني علاقات مع تلك الدول متجنبًا القطيعة و العداوة طويلة الأمد.
بدلًا من الانتقام أو فرض العزلة، اختار السودان الاحترام المتبادل وتفعيل أدوات القانون الدولي، واضعًا نصب عينيه أهمية المستقبل. السودان أدرك أن الدول التي قد تكون خصمًا اليوم، قد تصبح شريكًا غدًا، وأن في السياسة الدولية لا توجد عداوات دائمة، بل مصالح متغيرة. و لذا، و بدلاً من أن يحرق الجسور، عمل على الحفاظ عليها. فالسياسة هنا لم تكن مجرد ساحة حرب بل ساحة للتفاوض و التحالفات الذكية.
الدهاء السياسي: ترويض الخصوم بالحكمة:
السودان، الذي عاش في قلب الأزمات، لم يسعَ إلى تحقيق نصر عسكري فقط، بل ركز على ترويض خصومه. هذا الترويض لم يكن عن طريق القوة الغاشمة، بل عبر الحكمة السياسية. في الوقت الذي كان فيه يحافظ على كرامته في الداخل، كان يعمل على إدارة علاقاته الخارجية بمرونة بالغة. الإمارات وتشاد، اللتان دعمتا المليشيات في البداية، سرعان ما وجدتَا أن السودان لا يسعى لتدميرهما، بل لتوجيه العلاقة نحو مسار جديد يقوم على التعاون والاحترام المتبادل.
بهذه الخطوة، استطاع السودان أن يمسك بزمام المبادرة. لم يقع في فخ الردود الانفعالية أو قطع العلاقات، بل استخدم ذكاءه السياسي ليضمن أن تظل هذه الدول في دائرة التعاون، مع الاعتراف بحق السودان في الدفاع عن سيادته.
الرسالة الوطنية: كيف تصنع الأزمات أبطالًا؟
هذا المزيج الفريد بين الصرامة في الداخل والمرونة في الخارج يحمل رسالة واضحة لكل سوداني. السودان، رغم كل ما تعرض له، لم ينحنِ، بل استخدم الأزمات لصقل قوته و بناء علاقاته على أسس جديدة. و كما أن الأزمات تختبر صلابة الحديد، فإنها تختبر أيضًا قدرة الشعوب على الصمود و الإبداع. السودان اليوم ليس ضحية للأزمات بل صانع فرص جديدة من قلب التحديات.
إعادة تعريف النصر: البناء من الأنقاض:
النصر في الحروب لا يعني بالضرورة سحق الأعداء، بل القدرة على تحويل الأعداء إلى حلفاء، و تحويل الدمار إلى فرص. السودان أعاد تعريف النصر من خلال استراتيجياته المتوازنة. فبينما كان العالم يترقب انهياره، كان هو يبني جسورًا للمستقبل، ويستخدم موارده بحِنكة لصياغة واقع جديد.
السودان لم يسعَ إلى عزلة دولية أو انتقام من خصومه، بل حافظ على سيادته واحترامه للقوانين والمعاهدات الدولية، ليصبح نموذجًا في إدارة الأزمات وتحويلها إلى فرص للتنمية والعلاقات الدولية المتينة.
أصل القضية : ترويض العواصف و بناء الجسور
قصة السودان في السنوات الأخيرة هي قصة أمة قررت أن تتعامل مع أعدائها بذكاء ومرونة، بدلاً من الصدام المباشر. إنها قصة وطن يواجه أزماته بإبرة دقيقة تبني طريقًا مستدامًا نحو الاستقرار. السودان، في مواجهته للتمرد و حفظ كرامته، لم يغلق أبوابه أمام الحوار بل بنى جسورًا تعيد تشكيل علاقاته مع دول الجوار.
أصبح السودان رمزًا للصمود و الدهاء، وقدرته على تحويل كل أزمة إلى فرصة، و كل خصم إلى حليف درسًا يُحتذى به في عالم السياسة و إدارة الأزمات.