الحوكمة والاستدامة واستشراف مستقبل السودان بقلم/ د. أحمد الطيب السماني .. مدرب وأستاذ التنمية والإدارة

في ظلّ التحديات المتراكمة التي يمرّ بها السودان، تبرز مفاهيم الحوكمة والاستدامة كركائز ضرورية لإعادة بناء الدولة، و ترسيخ نهج تنموي جديد يحقق العدالة والاستقرار والتقدم. و قبل الحديث عن مستقبل السودان ما بعد الحرب، لا بدّ من الوقوف على دلالة هذين المفهومين و علاقتهما بإدارة الدولة و المجتمع.
أولاً: مفهوما الحوكمة و الاستدامة
الحوكمة هي منظومة من المبادئ و الإجراءات التي تهدف إلى تحسين أداء المؤسسات من خلال الشفافية، و المساءلة، و المشاركة و سيادة القانون. و تعني إدارة الشأن العام و المؤسسات بما يضمن نزاهة القرار و عدالة توزيع الموارد.
أما الاستدامة فهي القدرة على تلبية احتياجات الحاضر دون الإضرار بحقوق الأجيال القادمة، و تشمل الاستدامة الاقتصادية، و البيئية و الاجتماعية. و تعني أن يكون أي مشروع أو قرار قائماً على مراعاة الأثر طويل الأمد و تكامل الأبعاد الثلاثة للتنمية.
هاتان الركيزتان لا يمكن فصلهما في بناء الدول الحديثة، فدون حوكمة رشيدة لا تتحقق استدامة، ودون استدامة تنهار مكتسبات أي حوكمة.
ثانياً: السودان بعد الحرب: واقع مؤلم وفرصة نادرة
يمرّ السودان بأقسى مراحله التاريخية نتيجة حرب داخلية كارثية خلّفت آلاف القتلى، وشردت الملايين، ودمّرت البنية التحتية، وزادت الانقسامات المجتمعية والسياسية. ورغم قسوة المشهد، إلا أن ما بعد هذه الحرب يمكن أن يكون لحظة ميلاد جديدة إذا توفرت الإرادة الوطنية والرؤية الحكيمة.
فالسودان بلد غني بالموارد الطبيعية (أراضٍ زراعية شاسعة، مياه، ثروات معدنية و بترولية)، و ثقافة مجتمعية تقوم على التعاون، وتاريخ طويل من التنوع الثقافي و الديني. غير أن غياب الإدارة الرشيدة، و فساد المؤسسات، و التنازع على السلطة، هي ما جعل هذه الموارد نقمة بدل أن تكون نعمة.
ثالثاً: نحو دولة سودانية جديدة قائمة على الحوكمة و الاستدامة
إن إعادة بناء السودان تتطلب تأسيس مؤسسات دولة تتبنى مبادئ الحوكمة الرشيدة، و إدارة الموارد بعقلية استثمار لا عقلية استهلاك أو نهب. و هذا يتحقق عبر:
إعادة هيكلة مؤسسات الدولة بحيث تصبح ذات طابع مهني غير حزبي، تعتمد الكفاءة لا الولاء، وتعمل وفق قوانين تضمن الشفافية و المساءلة.
تحقيق العدالة الانتقالية لمعالجة مظالم الحرب و تضميد الجراح، و الانتقال إلى مصالحة وطنية حقيقية.
وضع خطة وطنية شاملة للتنمية المستدامة، ترتكز على الزراعة و الصناعة و تكنولوجيا المعلومات، و تستفيد من طاقات الشباب و المرأة و الشتات السوداني في الخارج.
إنشاء مفوضيات مستقلة للشفافية و مكافحة الفساد، تكون لها سلطة كاملة لمراقبة أداء الدولة و محاسبة المقصرين.
بناء شراكات استراتيجية مع الدول و المنظمات الدولية لدعم عملية إعادة البناء، بشرط احترام السيادة الوطنية.
رابعاً: توصيات لحكومة السودان القادمة
اعتماد وثيقة وطنية للحوكمة والاستدامة تُلزم بها كل مؤسسات الدولة.
دمج مبادئ الحوكمة في المناهج التعليمية و في تدريب العاملين في الخدمة المدنية.
تبني نظام إدارة الموارد يقوم على التخطيط والرقابة و التقويم الدوري.
سن قوانين صارمة تحمي المال العام و تجرم المحسوبية والفساد.
إنشاء مرصد وطني للاستدامة يتابع مؤشرات التنمية في كل الولايات.
خاتمة
إن الحرب ليست نهاية الطريق، بل بداية لتحول جديد إن أحسنا قراءة المشهد، و استفدنا من الأخطاء. و السودان، بما يملكه من ثروات و عقول، قادر على النهوض إن وُضعت أسس الحوكمة، و تحولت الاستدامة من شعار إلى ممارسة. ولن يتم ذلك إلا بوجود إرادة سياسية صادقة، و مجتمع مدني يقظ، و نخب مؤهلة تحمل همّ الوطن لا همّ الحزب أو القبيلة.