مقالات الرأي
أخر الأخبار

متي يُطلّ الربيع علي أحزابنا السياسية .. بقلم/ د. صديق حسن مساعد

بدأت معالم الخارطة السياسية الحزبية تشكل من واقع حركة الخريجين عبر مؤتمرهم الذي كان بمثابة منصة انطلاق لعدد كبير من جيل الآباء المؤسسين لعدد من الأحزاب السياسية السودانية، إذ تفتحت براعم شباب مؤتمر الخريجين وسط الأحزاب السياسية التي قادت المواجهة ضد دولتي الحكم الثنائي، و إن كانت كل الدلائل تؤكد أن بريطانيا كانت صاحبة القدح المعلى فيما يتعلق بالشأن السياسي السوداني و المصري لا سيما في تلك الحقبة من ثلاثينيات و أربعينيات القرن الماضي التي شهدت فيها البشرية أكبر حرب كونية كانت و ما زالت آثارها تترى في واقعنا عبر كل تلك التقاطعات. لم يستطع مؤتمر الخريجين أن يسير في ذات درب حزب المؤتمر الهندي لأسباب كثيرة تتعلق بظروف الزمان و المكان و أبعاده الثقافية و الفكرية و حتى العمق الحضاري، إذ أن واقع السودان و عبر التحولات التاريخية و الاجتماعية و السياسية خرج من مضارب القبلية إلى رحاب الطائفية، و كان الأمل أن تكون قوة دفع مؤتمر الخريجين أقوى من نفوذ الطائفة فيحتوي المؤتمر الطوائف بين جدرانه، و لكن لسنن التطور أحكام و نواميس فلقد كان المستعمر ينظر إلى المثقفين من أبناء المستعمرات شذراً لأنهم كانوا وقوداً و مشاعل لحركات الاستقلال و التحرر الوطني، و للحد من نفوذهم كانت حبال الود موصولة ما بين المستعمر و قادة الطوائف باعتبارهم يمارسون شيئاً من الاعتدال البعيد كل البعد عن الثورات و شعاراتها و زخمها، فأصبحت للطائفة كيانات سياسية حزبية. و كان هناك في الساحة صوت للإسلاميين لكن حينها كان صوتاً ضعيفاً عكس صوت اليسار ذي المراضع و الحبال السرية الخارجية لا سيما موسكو التي خرج حزبها من أنقاض الحرب الكونية الثانية منتصراً في موكب الحلفاء الذي تراجع فيه دور إمبراطوريتين هما فرنسا و بريطانيا، و حلت مكانها في السيادة و الريادة الكونية الاتحاد السوفييتي و الولايات المتحدة كقوى جديدة ورثت تركة فرنسا و بريطانيا اللتين شربتا من ذات الكأس الذي تجرعته تركيا بعد الحرب الكونية الأولى.

عموماً نشأت أحزابنا السياسية و أنجز مشروع الاستقلال و نال السودان استقلاله، لكن لم تستطع الحركة السياسية السودانية أن تنعتق من قيود زعماء الطائفة، الأمر الذي أعاق الممارسة السياسية الحزبية و لم يساعد هذا الجو في نشر ثقافة و ممارسة الديمقراطية حتى تترسخ عبر تراكم الممارسة الرشيدة، فكما هو معلوم أن واقع أي طائفة لا يعرف شيئاً اسمه ديمقراطية و انتخابات حرة شفافة نزيهة و كفالة حق الترشيح لكل فرد داخل المؤسسة، فالزعامة في الطائفة حصرياً على بيت محدد أو أسرة محددة، و غير مسموح بكسر هذه القوانين و النواميس، فقادة الطوائف لم يجتهدوا لكي يغيروا هذا الواقع الذي ران على ممارسة الفعل السياسي، و يبدو أنهم طاب لهم هذا الأمر بأن أصبحوا مثل ملوك العصور الوسطى خُلقوا لكي يحكموا الناس، رغم أن الثورات الشعبية و الفكرية التي انتظمت الغرب نقلت أولئك الملوك أصحاب الحق الإلهي إلى ملكيات دستورية عبر تطور التجربة الإنسانية، و هذا الشئ كان يمكن أن يمارسه الساسة ذوو الأصول الطائفية و لكن هذا الداء انتقل حتى إلى الأحزاب التي تدّعي الثورية سواء كانت تلك الثورية فلسفة وضعية كاليسار الأممي أو القومي أو حتى الإسلاميين أو ما أصبح يسمى بالإسلام السياسي أصبحوا صنواً آخر لزعماء الطوائف، و هذه هي آفة فشل تجاربنا الديمقراطية و الحزبية في السودان؛ فلا يستقيم عقلاً أن نعيش في بلد لم نر فيه حتى اليوم زعيم حزب (أسبق)، الكل متمترس خلف كرسي الزعامة لا تنزعه عنه ممارسة ديمقراطية أو نهوض قوى سياسية حديثة، بل يظل رئيساً لا ينازعه أحد، و الويل كل الويل لمن يجرؤ علي الحديث عن الإحلال و الإبدال و دورة الأجيال بل يظل رئيساً و يفلقون هامات المنابر بفسولات لا نراها في الواقع المعاش، و هذه الممارسة أكبر معول هدم تجاه جدار الأمة فمتى يفيق ساسة هذه البلاد زعماء الأحزاب الذين وصلوا إلى مقاعد الرئاسة الحزبية منذ أمد بعيد و لم نجد من تحدثه نفسه بالترجل أو التنحي الأمر الذي خلق حاله احتقان مزمن في الساحة السياسية السودانية و أقعد المسيرة الديمقراطية بل أصابها بالكساح و أدخلها غرف الإنعاش، فإذا أردنا لهذه البلاد خيراً يجب أن تمارس الديمقراطية الحقيقية داخل هذه الأحزاب عبر مؤسسات حقيقية تحكمها اللوائح و القوانين، و أن تحدد فترة الرئاسة لكل رئيس حزب بألا تتجاوز الدورتين أو الثلاث بأي حال من الأحوال، و أن تكون المسائل المالية و الصرف الحزبي واضح المعالم و البنود، و أن يوافق القول العمل حتى يكون هناك شئ من المصداقية و احترام العقول، فلا يمكن أن يستنكر رئيس حزب سوداني على زعيم عربي بأنه ديكتاتور حكم لعدة عقود و هو ،أي الزعيم السوداني، يكون مسيطراً على مقاليد حزبه لعقود، فهذه الممارسة لا يمكن لها أي تهيئ لواقع ممارسة ديمقراطية رشيدة.

و ليت ساسة بلادي كانوا على شاكلة جنرال فرنسا العظيم (شارل ديجول) فحينما رأى عنواناً بارزاً على صدر صحيفة فرنسية يقول “فرنسا تشعر بالملل” قال أي ديجول “أنا المقصود بهذا” فتقدم باستقالته رغم أنه قاد معركة فرنسا بعد هزيمتها من ألمانيا النازية، و انتصر لشعبه، و أسس لفرنسا جمهوريتها الخامسة، لكن أمام كل هذه الغنجازات التي تتسامى فوق هامات كثير من إنجازات ساستنا تنحى الجنرال العظيم ديجول مُفسحاً المجال لغيره، ضارباً المثل الأروع في ممارسة الفعل الديمقراطي سلوكاً و ممارسة عملية.

و كذلك إذا انتقلنا إلى جنوب قارتنا السمراء نجد تجربة إنسانية ماجدة قدمها السياسي النبيل نيلسون مانديلا الذي أنجز مشروعاً عظيماً مع جلّاديه و دخل التاريخ يرفرف بأجنحته الخفاقة عالياً في سماء الممارسة الحقّة للفعل السياسي، رغم أن ما قدمه ما نديلا للبشرية يأهله لأن يكون رئيساً مدى الحياة لكن الرجل كان أمة، فأفسح الطريق لمن يكمل المسيرة ضارباً المثل الأروع في ممارسة السلطة و زعامة الحزب، فمتى يستوعب ساسة بلادي الدروس و يستلهموا العبر من أجل ربيع جديد تتفتح أزهاره و تغرد عصافيره آمنة مطمئنة غير خائفة أو وجلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى