
محاريب الصمود …و حربٌ دون مقدمات … جيشٌ بلا استعداد لمقارعة غشيان أولي القربى لحياضه …ظروفٌ سياسية و اقتصادية و أمنية معقدة جدًا… لم يكن أكثر المتفائلين يرى انقشاعاً لسحابة الحرب التي دارت رحاها في الخرطوم ثم تمددت ..فمعظم سكان الخرطوم هجروها بفعل الهجمات التي لم تبقِ أخضراً و لا غصناً نامياً إلا أحرقته …فكان من أمسك عن الخروج من الخرطوم إما متخوفٌ من مصير مجهول إذا خرج إلى الخواء …أو مستمسكٌ ببعض ما اكتسب من ممتلكات حصاد عمر متحيزٌ إلى فئته …و ما بين هذا و ذاك كانت قوات الدعم السريع تشن هجماتها علي معسكرات الجيش السوداني المحاصرة …القيادة العامة للقوات المسلحة ..معسكر المهندسين ..قيادة المدرعات سلاح الإشارة و غيرها من المعسكرات و المناطق العسكرية بصورة قوية و فيها إصرار عجيب على استسلامها أو احتلالها ….إلا أنها بقيت صامدة أمام سيل هجماتهم …
كنا نسمع دوي مدافعهم …فتهرع بعض النساء في دورنا إلى الاحتماء تحت الأسرّة كأنما هذا السرير يسمن من جوع فيحمي من طلقة بندقية فضلًا عن دانة مدفع أو قذيفة راجمة …
قدم الجيش السوداني طوال هذه الفترة نماذج عجيبةً في الصمود و إدارة المعارك العسكرية بخبرة عظيمة و دراية متناهية و حنكة فذة لم يكن يتوقعها حتى من شنو الحرب و داعميهم دولاً و جماعات …فصمدت معسكرات القوات المسلحة لفترة طويلة جداً مقارنة بأوضاع الحصار …
فمثلا القيادة العامة القوات المسلحة مقر قيادتها الرئيس ومنها يدور التخطيط والامداد والعمليات العسكرية كلها … وهي كانت مقصد الهجمات العنيفة والمتوالية من قوات الدعم السريع بشكل راتب و يومي …وبكل انواع الخطط العسكرية و الاسلحة ، بل ان قائد السريع كان يقول في اول ايام المعركة …على البرهان ان يسلم نفسه أو سنستلمه وهذه اشارة واضحة ان الرجل كان واثقاً من نفسه انه يحاصر ويحيط بها القيادة العامة احاطة السوار بالمعصم …فالرجل جاء بقوات عظيمة جدا من حبث العدد والعتاد لحصارها …و زاد الأمر بلةً عامل مفاجاة ….والاجتراء على الغدر الذي ابتدر الدعم السريع الحرب به …ورغم كل هذه المعطيات بقيت القيادة العامة صامدة و متماسكة …تدير معركتها رغم كل شئ .وولهذا دلالاتٌ مهمة ، منها ..أولا، الاستعداد النفسي أو فلنقل التأقلم النفسي لهيئة قيادة القوات المسلحة و تماسكها مما انعكس بدوره في امتصاص الصدمة الأولى، فتحملت قيادة القوات المسلحة مصاعب عديدة و عظيمة في سبيل أن يبقى الجيش متماسكاً حتى لا يفقد الجيش روحه المعنوية. و ثانيها أن فترة حصار القيادة العامة على وجه الخصوص كانت طويلة جداً وصلت إلى واحد و عشرين شهراً و هو حصارٌ المتوقع منه وفيه قلة المؤونة و تناقص الذخائر و استشهاد القوة المدافعة عن القيادة ما بين الموت بالهجمات أو تعدي المرض في ظل ضعف التغذية أو العلاج من آثار الحصار. و ظلت هيئة القيادة تدير ما كان بيدهم من موارد و مؤن و عتاد إدارة حكيمة و واعية و مدركة لمآلات الحرب و سير المعارك. و ثالثها: بقيت هيئة قيادة القوات المسلحة متماسكة و صابرة حتى لا تفقد مقرها وحتى لا تفقد بفقده سيطرتها على مقراتها و اتصالاتها و عملياتها مع كافة الوحدات في السودان و هذا يعكس تمتع هيئة القيادة بإمكانيات و قدرات إدارية و عسكرية و تخطيطية مهولة.
و رابعها: أن صمود مقر قيادة القوات المسلحة طوال هذه الفترة ينبئ عن قدرات فذة لدى قادة الجيش السوداني، حيث أن المدرك بعد النظر إلى الحال يجد أن الاستسلام كان أقرب الحلول، لكن استطاعت القيادة الحفاظ على قدر استثنائي من الثبات الانفعالي و التعامل مع ردة فعل متزنة لتبني عليها خطط معاركها أبقت معه مقرها في يدها في ظل معركة تدور في وسط المدن، و استطاعت كذلك رغم كل هذه الظروف إدارة عملياتها بألا تستسلم في الفترة الأولى و أن تبقي الروح المعنوية للجنود بصورة معقولة حتى استعادت رباطة جأشها و شرعت بعد ذلك في تحرير كل شبر بشكل متزن و معقول في ظل معطيات معقدة ميدانياً و عسكرياً و سياسياً داخلياً و خارجياً.
و ختاماً جاء في الأثر أن أبا حنيفة رأى غلاماً يقف عند بئر،فقال له إحذر يا غلام …فقال يا إمام إن وقعت أنا وقعت لحالي و إن وقعت انت وقعت أمة كاملة …يقصد بذلك أن أبا حنيفة صاحب معه دهماء الناس و عوامهم ..و هو كبيرهم …فإن زلت قدمه في أمر و وقع تبعه الناس.
إن بقاء مقر القوات المسلحة السودانية و فك الحصار عنه الآن سوف يكون إرثاً عسكرياً فريداً في تاريخ الحروب في العالم، و هذا بدوره يدل على رسوخ قدم الجيش السوداني و تمكنه في اسوأ الظروف من فرض رؤيته حتى لا يستسلم من خلفه …و لعمري إن القيادة العامة بذلك صارت محراباً من محاريب الصمود و أسطورة من أساطير القوة و التحمل في أعراف الحروب.