مقالات الرأي
أخر الأخبار

وجه الحقيقة … حسين عبد الدافع مختار : “مأساة سوق صابرين” .. بقلم/ إبراهيم شقلاوي

بطل قصتنا طلب أن نكتبها عنه بهذا الاسم الثلاثي و هو يحدثني عن صموده أمام الحزن و الدمار عن كل معاناته منذ اندلاع الحرب في منتصف أبريل من العام الماضي. هكذا حكي (حسين عبد الدافع مختار) عن حياته التي كانت بسيطة و مليئة بالأمل، و عن سوق أم درمان الذي كان يعتبره مركزاً لنجاحه حيث كان يبيع المواد الغذائية و يترزق منها مع أسرته الصغيرة. كانت تلك الأيام أياماً هادئة ممتلئة بالأمل في المستقبل. كان حلمه أن يملك منزلاً صغيراً لأطفاله حلماً بسيطاً ليعيشوا في أمان.

ثم جاء ذلك اليوم الذي سلبه كل شيء. كان (حسين) يروي لي التفاصيل بتأثر شديد و حسرة كأن الألم يعود إلى قلبه مجدداً. في الأيام الأولى من اندلاع الحرب بدأ القصف يقترب أكثر فأكثر، لم يكن أحد منّا يتوقع أن الحرب ستصل إلى قلب العاصمة إلى سوق أم درمان الذي كان يوماً ما مكاناً يعج بالحياة و الناس. كان حسين يقف في مكانه بين الزبائن يبيع و يشتري حين سمع دوي انفجار ضخم، ارتجت الأرض تحت قدميه فكل شيء كان يهتز بشكل مفاجئ. ثم جاء صوت قذيفة دمرت المكان الذي كان يقف فيه محطمة السوق و مدمرة مصدر رزقه الوحيد.

“اللحظة ديك ما بنساها أبدا” قال حسين و هو ينظر بعيداً، و كأن صورة المكان المدمَّر لا تزال حية في ذهنه . “كل شيء ضاع في لحظة يا ابراهيم؛ محلي التجاري، الأموال اللي كنت مدخرها، حتى ذكرياتي مع الزبائن و الرفاق كلها تحولت إلى رماد.” كانت نبراته مليئة بالحزن لكنني شعرت بشيء آخر في نفسه، كان ذلك الصمود و الإرادة و القوة التي لا تنكسر و المأساة و الخذلان في من كانوا يتصارعون علي السلطة لأجل أنفسهم.

كان يعود في كل مرة إلى ذاته، يحاول أن يخبئ الألم في قلبه ليحمي أسرته لكنه كان يعلم أنهم جميعاً يشعرون بما حدث. و رغم أنه لم يكن يريد أن يثير القلق في قلب زوجته و أطفاله، إلا أنهم كانوا يعرفون جيداً أن كارثة قد حلت بهم كانوا يعلمون أن حياتهم قد تغيَّرت إلى الأبد.

“كنت أرجع إلى البيت و أنا غير مصدق” قال حسين و هو يكمل حديثه، “أشوف أولادي و زوجتي وكلهم في انتظار أخبار عن السوق، و كان أصعب شيء إني ما أقدر أخبرهم بالحقيقة، ما أقدر أقول ليهم إننا فقدنا كل شيء لكن هم كانوا يحسون بالأمر كانوا يعرفون” كانت تلك اللحظات التي مر بها حسين مليئة بالتناقضات، بين الأمل و الألم بين الرغبة في الكتمان و الصراع الداخلي الذي كان يعيشه في اختلاج.

و مع مرور الأيام، كانت الحرب تزداد ضراوة، كان القصف يستمر، و المليشيات تعيث فساداً في المدينة. لم يكن أمام حسين و أسرته سوى الهروب. هربوا من مكان إلى آخر حتى استقروا في بيت إيجار صغير في الحارة (7 ). كانت الغرفة التي استأجروها ضيقة لا تكاد تتسع لأسرة مكونة من ستة أفراد. كان ذلك البيت البسيط يذكره دائماً بخيمة رغم أنه لم يكن كذلك.

“في البداية، كان الألم أكبر من أي شيء، لكن بعد فترة بدأت أقول لنفسي لا بد لنا أن نصمد. الحرب دي مهما طالت ما بتكسر الناس. وطننا حي ،و لو كان الزمن صعب، لازم نكون أقوياء.” كانت عينا حسين مليئة بالدموع، و لكن صوته كان ثابتًا، وكأن الزمن قد توقَّف عند تلك اللحظة التي فقد فيها كل شيء، لكنه كان يتشبث بما بقي له؛ العائلة و الوطن والوفاء لهذا المكان الذي لطالما أحبه.

حتى عندما كانت زوجته تنظر له في عينيه بحزن، و تبتسم له ابتسامة حزينة بينما تقوم بتوزيع القليل من الطعام على الأطفال كان هو يسحب من داخله القوة ليقول لهم: “الجيش في قلبنا، الجيش سينتصر ،البلد دي ما بتنهار، إحنا شعب صامد و الأمن حيعود” كان يكرر هذه الكلمات كل يوم و كأنها العكاز الذي يستند عليه ليقف من جديد رغم كل التحديات.

وفي وسط المعاناة كان الصمود يخرج من أعماقه و يرفض الاستسلام. كلما نظر إلى أطفاله شعر أن الحياة ستعود مهما طال الزمن “حياة جديدة بانتظارنا” كان يرددها رغم أنه كان يعلم أن الطريق طويل ، وأنهم فقدوا كل شيء لكنه كان يؤمن أن هذا الوطن الذي سلبهم كل شيء سيمنحهم في النهاية ما يستحقونه؛ الأمل و الأمان و الحرية.

لكن حسين لم يكن يعلم أن اليوم الذي يحكي فيه هذه الكلمات سيكون في ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان، في وقت تُرتكب فيه مجزرة جديدة بحق المدنيين في محلية كرري، حيث تعرضت حافلة مواصلات عامة لقصف مدفعي في سوق صابرين الذي يقع جوار بيته أدى إلى استشهاد (5 ) من المواطنين الأبرياء معظمهم من أهل المنطقة. فاجعة حسين أن أحد الذين فقدوا أرواحهم في ذلك اليوم كان خال أولاده الذي كان متنقلاً باحثاً عن(حقن الأنسولين)، كان حسين يشعر أن المأساة التي يعيشها قد تضاعفت و أن القهر الذي يواجه أكبر من الاحتمال.

كان يحدثني بأسي و هو يتصفح تقرير نشرته “خرطوم نيوز” ورد فيه أن مليشيا الدعم السريع استهدفت المواطنين في محلية كرري مما أسفر عن مقتل أكثر من (5 ) شخص و أكثر من مئتي جريح. تكدست المستشفيات بالجثث و المصابين. وقف والي الخرطوم (أحمد عثمان حمزة) مع لجنة الأمن في الولاية، يتفقد مواقع القصف في موقف حافلات الحار (17) حيث تحولت الحافلة إلى كومة من الأشلاء، و قتل جميع ركابها الذين بلغ عددهم (2 ) شخصاً. و كان القصف أيضاً قد طال جوار السوق و أحياء سكنية أماكن معلوم أنها مكتظة بالمواطنين.

استنكر الوالي هذه المجزرة و أدان استهداف المدنيين الأبرياء، مطالباً المجتمع الدولي و المنظمات الإنسانية بضرورة إدانة هذه الانتهاكات ضد المدنيين الذين أصبحوا ضحايا لنهج المليشيا في القتل و الدمار. كما أدانت المجزرة عدد من الاحزاب الوطنية حتي أولائك الذين يناصرون المليشيا و يدعمونها سياسياً و إعلامياً.

وفي مستشفى (النو) حيث تواجد عدد كبير من الجرحى، كان حسين يشاهد الأطباء و هم يبذلون أقصى جهدهم لإنقاذ من يمكن إنقاذه من المصابين، لكنه كان يعلم أن هذا الصراع سيستمر و أن الناس سيواصلون دفع الثمن. لكن ذلك لم يثني عزيمته، كان يقف يراقب المشهد و يقول: “لكننا سنصمد، و نحارب لأجل وطننا.”

هكذا تحدث (حسين عبد الدافع) عن مأساته، و هذا هو وجه الحقيقة، و كأنما كانت الكلمات التي يروي بها قصته هي صرخة في وجه الظلم و انتصار للوفاء. لا يهم كم مرَّ من الوقت و لا عدد الجروح التي أصابته، فمايزال قلبه ينبض بالحب لهذا الوطن الذي مهما كانت الظروف قاسية سيظل قوياً يتحدى الصعاب.

دمتم بخير و عافية.
الخميس 12 ديسمبر 2024 Shglawi55@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى