قد يتساءل البعض لماذا تم تركيزنا في الحديث عن خدمات (إستار لينك) من شركة (Space-x) و ربطها بالتحديات التي قد تواجه سيادة الدول، على الرغم من وجود غيرها من الخدمات المشابهة مثل (OneWeb) البريطانية، و (Google)، و (BlueBird) و (أمازون)، و للإجابة على هذا التساؤل -المشروع- دعونا نعيد التذكير بالانتخابات الأمريكية في العام (2016) عندما تدخلت شركة (كامبريدج أناليتيكا) الأمريكية و هي فرع من الشركة البريطانية الأم (SCL group)، حيث أثّرت الشركة على نتائج الانتخابات الأمريكية بالتدخل لصالح المرشح الجمهوري (دونالد ترمب) ضد المرشحة الديمقراطية (هيلاري كلينتون) بالتأثير على الناخبين عبر وسائل التواصل الاجتماعي و تحديداً تطبيق (فيس بوك)، فالمعروف أن شركة (كامبريدج أناليتيكا) تعمل في مجال الجمع بين البيانات و تحليلها ثم الوصول إلى الاستنتاجات، حيث أُشتهرت في العام (2015) بقدرتها (الرهيبة) على جمع البيانات و تحليلها و الوصول إلى نتائج عالية الدقة، و تعتبر الشركة مشاركة و حاضرة بقراراتها في السياسة الأمريكية حيث شاركت في عدد من السباقات السياسية بما فيها سباقات الانتخابات، وبالعودة إلى تأسيسها نجدها مملوكة جزئياً لعائلة رجل الأعمال الأمريكي (روبرت ميرسر) الذي ينشط كثيراً في المجال السياسي من خلال دعم أحزاب على أحزاب أخرى، و قد تفاخر مديرون تنفيذيون من شركة (كامبريدج أناليتيكا) بأنهم عملوا على أكثر من مائتي حملة انتخابية في جميع أنحاء العالم.
وكما هو معروف في العالم فإن النفوذ السياسي يرتبط دائما بالمال و الثروة و عالم الأعمال، و قد إتجهت الدول الكبرى المهيمنة على صناعة القرارات السياسية في العالم إلى تسخير حوجة الشعوب و الدول إلى الخدمات التقنية الحديثة بمحاولة الهيمنة عليها و التأثير فيها عبر استمالة العديد من رجال الأعمال الذين يمتلكون الشركات العملاقة في مجالات التقنية المختلفة حول العالم، و لم يكن رجل الأعمال الأمريكي و أغني رجل في العالم (إيلون ماسك) و مالك شركة (Space-x) بعيداً عن هذا الاتجاه، فالمتتبع إلى سيرة الرجل الذاتية يجده من مواليد دولة جنوب أفريقيا (بريتوريا) و هو رجل أعمال كندي حاصلاً على الجنسية الأمريكية، مستثمر ومهندس و مخترع ومؤسس لشركة (Space-x) و رئيسها التنفيذي و المصمم الأول فيها، و المؤسس المساعد و المهندس المنتج لشركة (تيسلا موتورز) الشهيرة بإنتاج السيارات الكهربائية، كما شارك في تأسيس شركة التداول النقدي الشهيرة (PayPal)، و رئيس مجلس إدارة (سولار سيتي)، و هو الذي قام بتجسيد فكرة نظام النقل فائق السرعة المسمى (HyperLoop) الذي يتم التخطيط لاستخدامه مستقبلاً في المواصلات و الطائرات و في المركبات الفضائية، كما ساعد في تأسيس شركة (OpenAI) و هي شركة أبحاث تهدف إلى تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، كما ساهم في تأسيس شركة (نيورالينك) المتخصصة في مجال التكنولوجيا العصبية التي تركّز على تطوير سبل إتصال الدماغ البشري مع الحاسوب (حاسوب العقل الوسيط). و يعتبر (أيلون ماسك) نفسه من المتعصبين للولايات المتحدة الأمريكية حيث يصفها بأنها (أعظم دولة وجدت على سطح الأرض)، رغم نأيِه عن تصنيف نفسه بلونية سياسية معينة، و يدعي أنه (نصف جمهوري و نصف ديمقراطي)، بالرغم من تقلّده في العام (2016) موقع العضو الثاني في اللجنة الاستشارية للمرشح الرئاسي الجمهوري (دونالد ترمب)، و قد ظهر خلال حملة (ترمب) الذي فاز بالانتخابات الأمريكية الحالية و قد رمى (أيلون ماسك) بكل ثقله المالي والإعلامي في دعم حملة (ترمب)، إذ أنفق أكثر من (110) مليون دولار من ثروته الشخصية لصالح حملة (ترمب) في مسعى لرد الجميل له بعد أن وقف معه (ترمب) ضد إغلاق مصنع (تيسلا) للسيارات الكهربائية بولاية كالفورنيا أبان جائحة كورونا، ومن المتوقع أن يشغل (أيلون ماسك) منصبا رفيعا في إدارة الرئيس (ترمب) القادمة فقد يتولى (وزارة الكفاءة الحكومية) في الحكومة القادمة للولايات المتحدة الأمريكية. هذا وقد مثّل استحواذ (أيلون ماسك) على منصة (تويتر) التي تغيرت لاحقا إلى إسم (X) نقطة تحول ليس فقط في علاقة الرجلين بل وفي الساحة السياسية والإعلامية الأمريكية، فبعد حظر استمر منذ أحداث (6 يناير 2021م) للرئيس (ترمب) في منصة (تويتر) بعد أن اعتبرت إدارة المنصة أن تغريداته تشكل (تحريضاً على العنف) أعاد (أيلون ماسك) الرئيس (ترمب) إلى المنصة مرة أخرى، بعد أن وصف في مقابلة سابقة مع صحيفة (فاينناشيال تايمز) قرار حظر (ترمب) بأنه (قرار سيء أخلاقياً و حماقة في أقصى درجاتها).
يعمل الاتحاد الدولي للإتصالات (ITU) و هو أعلى منظمة تتبع لهيئة الأمم المتحدة مختصة في مجال الإتصالات و تكنولوجيا المعلومات، و يجتهد بكل طاقته في جميع الإدارات المختصة في أمر حماية الدول من التأثيرات الضارة التي تحدث بالتداخل و التشويش و التغطية المتجاوزة للحدود بين الدول في مجال خدمات الاتصالات، كما يعمل على التنسيق من خلال اللجان المتخصصة و فِرق العمل من جميع الدول لتنسيق استخدام (الترددات) الناقلة للخدمة، بالإضافة إلى تنسيق نشر الأقمار الصناعية في أجواء الدول في مداراتها المختلفة لحماية الدول من التأثير على خدماتها القائمة في مجال الإتصالات. وفي إطار مسعاه لنشر الاتصالات اعتبر الاتحاد الدولي للاتصالات التابع للأمم المتحدة في نهاية مارس؛ أن (الاتصال بالإنترنت الذي كان يُعتبر من الكماليات أصبح أمراً بالغ الأهمية و من الحاجات الأساسية لكثير من الناس، حيث اضطر الناس إلى البقاء في منازلهم خلال جائحة كوفيد-19 و انتقلت أنشطة وأعمال كثيرة إلى الإنترنت)، ويرى الخبراء أن احتياجات (النطاقات الترددية) زادت في كل أنحاء العالم، إلا أن عدد الأقمار الصناعية المتوفرة حالياً لا تسمح بتلبية الطلب المتزايد، كما أن الأقمار التي تدور في مدار منخفض هي أكثر عرضة للخطر من المركبات الثابتة بالنسبة للأرض، و هو ما أظهره أخيراً تسبب عاصفة جيومغناطيسية بتفكك نحو (40) قمراً صناعياً من شبكة (إستار لينك) التابعة لشركة (Space-x) عند عودتها إلى الغلاف الجوي للأرض.
تجتهد الحكومات المختلفة في العالم في اللحاق بالتطور التقني الهائل الذي يحدث في عالم اليوم ،في سباق غير عادل، حيث يسبق ظهور التقنيات الحديثة و الأجهزة و التطبيقات الذكية يسبق إيقاع الحكومات و هيئات التنظيم على مستوى العالم في وضع الأطر التنظيمية و اللوائح التي تنظم هذه الخدمات الحديثة، و تضع لها من الضوابط و الإجراءات و الشروط التي تسمح بممارسة الدولة لسيادتها و تحكمها في تقديم مثل هذه الخدمات داخل حدود وفضاء الدولة، إلا أن تأخّر الإجراءات التنظيمية و نشر الشركات العملاقة لخدماتها في الفضاء الخارجي ودخول الأجهزة والمعدات التي تُستخدم في هذه الخدمات وتشغيلها فعليا يمثل أحد أكبر العقبات أمام الدول في مواجهة مثل هذه التحديات بالإسراع في تقنين وترخيص مثل هذه الخدمات. وإذا أسقطنا حالة خدمات شبكة (إستار لينك) على الواقع، نجد أن شركة (Space-x) قد نشرت آلاف الاقمار الصناعية في مدارات منخفضة لتقديم خدمات الاتصالات والانترنت للمستخدمين على مستوى العالم، ونجد أن الخدمة قد تم تفعيلها وإدخالها بواسطة أفراد أو جهات بعيداً عن سيطرة الدولة، و كمثال على واقع اليوم في السودان و الظروف الاستثنائية غير الطبيعية التي تمر بها البلاد بسبب الحرب مع انقطاع خدمات الاتصالات و الانترنت التي يعتمد عليها المواطن كثيرا في عدد من المناطق و الولايات، نجد أن شبكة (إستار لينك) و خدماتها قد حلت تلقائياً محل خدمات الاتصالات و الانترنت التي كانت تقدمها شركات الاتصالات المرخص لها بالعمل في السودان، و ذلك بسبب حوجة المواطنين الملحة في التواصل أو إجراء المعاملات المالية إلكترونياً حيث يعتمد كثيراً من المواطنين الموجودين في مناطق منقطع عنها الاتصالات على التحويلات المالية عبر التطبيقات الإلكترونية من خارج و داخل البلاد، و ذلك نتيجة للطفرة التقنية التي عاشها السودان في السودان الأخيرة و اعتماد المجتمع بالكامل على الخدمات الذكية و برامج الحكومة الإلكترونية و الشمول المالي و التحول الرقمي الكبير الذي حدث. ومع هذا الوضع نجد أن التراخيص التي تمنحها الحكومات في هذه الحالات لهذا النوع من الخدمات قد أصبح من الصعوبة بمكان، خاصة بالنسبة للأجهزة و ملحقاتها التي دخلت إلى البلاد بطريقة غير شرعية، أو تلك التي يمكن أن تدخل عبر المعابر الحدودية المخصصة للمساعدات الإنسانية بواسطة المنظمات أو بعض الجهات الداعمة لمسعى أن تعمل هذه الأجهزة خارج نطاق سلطات و تراخيص الجهات المختصة بالحكومة لهذه الخدمات. و بالمقابل نجد أن الشركة المقدمة للخدمة (إستار لينك) هي في حِل تماماً من أن تدفع رسوم الترخيص لهذه الخدمات بما فيها رسوم إنزال الخدمة من القمر الصناعي إلى أراضي الدولة السودانية وفقاً للشروط والإلتزامات الواجبة التطبيق عليها، ولن تسعى في إجراءات ترخيص الخدمة ما لم تُقابل بمطالبة رسمية وتهديد جدّي من الدولة بوقف هذه الخدمات من أن تُقدم داخل الدولة، فالوضع الآن بالنسبة للشركة المقدمة للخدمة (إستار لينك) هو مثل وضع التاجر الذي يبيع بضاعته دون أن يقوم بدفع قيمة الإيجار للمالك أو الرسوم الحكومية الواجبة السداد عليه فقط يربح دون أن يخسر شيئاً.
فنياً و تنظيمياً يمكن التنسيق مع الجهات المختصة مثل الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) لمنع أي تعدّي على سيادة الدولة بممارسة حقها في تنظيم و ترخيص الخدمات المقدمة من شبكة (إستار لينك)، و لكن هل بعد كل هذه التداخلات التي سردناها بين الدوافع السياسية لبعض مالكي هذه الشركات و الأهداف الاستعمارية للدول الكبرى و وكلاءها التي تطمع في السيطرة على موارد و مقدّرات الشعوب، هل يمكن أن نعزي الأمر فقط الربح الاستثماري فقط..؟ و هل يمكن اعتبار سعي الملياردير الأمريكي (إيلون ماسك) في السيطرة على الفضاء الخارجي القريب في العالم مع امتلاكه لتقنيات أخرى تسيطر على الفضاء الأرضي من تقنيات الذكاء الإصطناعي، و السيارات الكهربائية، و التكنولوجيا العصبية للاتصال بين الدماغ البشري و الحاسوب، و خدمات النقل فائق السرعة، و تطبيقات الدفع المالي العالمية وسيطرته على أكبر منصة للتعبير السياسي في العالم (X)، هل يمكن اعتبار كل ذاك فقط في إطار التربح من عائدات هذه الاستثمارات، أم هناك اهداف للسيطرة على العقل البشري بخدمات تقنية ذكية من الأرض و من الفضاء..؟ و هل يمكن إعتبار هذا الأمر يمثل تحدياً حقيقياً أمام الحكومات في العالم و هي ترى أن مواطنيها يتم سلبهم و توجيههم وفق خطط مرسومة و مدروسة بعيدة الأمد..!
ختاماً، نرى أن من واجب الحكومات تقنين و ترخيص مثل هذه الخدمات الفضائية الناشئة حمايةً لسيادتها و حمايةً للإستثمارات القائمة للمرخصين الآخرين المقدّمِين لخدمات الاتصالات الأرضية.