في خضم الصراع العسكري العنيف الذي يشهده السودان بين الجيش السوداني و مليشيا الدعم السريع منذ أكثر من 19 شهراً، جاء خطاب الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي و قائد الجيش السوداني في المؤتمر الاقتصادي الأول بمدينة بورتسودان ليحمل رسائل عديدة لم ينج منها أحد أرسلت في بريد الجميع. برغم ظهوره في البزة العسكرية، فقد كانت نبرة البرهان في خطابه هادئة تشير إلى الثقة و الاطمئنان ما يعكس موقفاً حازماً و واضحاً في التعامل مع الأزمة السودانية.
هذا الخطاب الذي تزامن مع تطورات دبلوماسية إيجابية أبرزها زيارة المبعوث الأمريكي (توم بيريلو) للسودان و التي استطاعت الحكومة السودانية أن تغير فيها انطباع الرجل و الصورة الذهنية السالبة التي تعمّد البعض رسمها في مخيلة الرجل بجانب استخدام روسيا لل(فيتو) ضد مشروع القرار البريطاني في مجلس الأمن. حمل خطاب البرهان في طياته مجموعة من الرسائل الداخلية و الخارجية تعمّد ارسالها في هذا التوقيت المهم، كان أبرزها الموقف من مليشيا الدعم السريع و داعميها، و الدول التي وقفت في المنطقة الرمادية -كما سماها- تجاه قضية الحرب في السودان بحانب حزب المؤتمر الوطني و التوجهات المستقبلية للسودان.
في جانب الرسائل السياسية الداخلية أكد البرهان في خطابه بشكل قاطع أن الحرب ضد مليشيا الدعم السريع “تشارف على النهاية”، و أنه لا مجال للتفاوض أو للهدنة مع “أعداء الشعب السوداني” و أن المليشيا و من دعمها أو وقف معها عليه أن يظل معها. هذه التصريحات تعكس عزم الجيش السوداني على الحسم العسكري الكامل يظهر ذلك في تصميم القيادة على القضاء على التمرد العسكري أو اخضاعه للاستسلام .هذا يعني: “لا مكان في اليوم التالي من الحرب لمليشيا الدعم السريع و داعميها على المستوى السياسي أو العسكري”. و هذه الرسالة تعكس موقفاً حازماً من البرهان تجاه الذين دعموا المليشيا حيث قال : “لا يمكنهم المشاركة في المرحلة السياسية المقبلة”، في إشارة واضحة لتنسيقية القوى المدنية” تقدم”. كذلك ربما أشار إلى الدول الداعمة للمليشيا بالحديث عن الدعم الخارجي للمتمردين لا يمكن أن يكون لهم مكان في المرحلة التالية من تاريخ السودان. و ذلك ربما كشف خلاله البرهان جانب من وساطة محتملة حاول أن يقدمها (بيريلو)لصالح الامارات في آخر أيام تكليفه بملف السودان الذي ربما ينتقل الي شخص آخر ضمن إدارة الرئيس ترامب في يناير القادم.
في جانب آخر تضمن خطاب البرهان حديثا واضحاً عن موقفه من انعقاد شورى حزب المؤتمر الوطني، فبعد أن وجه انتقادات حادة للحزب بشأن محاولات بعض قياداته عقد اجتماعات سياسية و إعادة تشكيل نفسه ، قال البرهان “لن نقبل بأي عمل سياسي مناوئ لوحدة السودان” .و مع ذلك فإن هذا الرفض لا يعني استبعاد الحزب تماماً بل، ربما يعكس محاولة للحفاظ على وحدة السودان في هذه اللحظة الحاسمة و انحياز لرأي شباب الحزب الذين أعلنوا أنهم غير معنيين بخلافات الوطني طالما الحرب لم تضع أوزارها، و في ذلك حسب مراقبين إشارة ذكية ضمن من خلالها النائي بوحدة جبهة القتال عن أي تداعيات محتملة لخلافات تيارات الاسلاميين كما شدد على ضرورة إبعاد الحزب عن الساحة السياسية في الوقت الراهن، لكنه لم يغلق الباب بشكل كامل أمام دور محتمل له في المستقبل كما أنه لم يستخدم وصفه “بالمحلول”، في الواقع الحزب رغم ماضيه السياسي المثير للجدل، يظل يمتلك قاعدة جماهيرية واسعة في السودان لا سيما بين الشباب الذين أظهروا استعداداً للالتحاق بجبهات القتال ضد المتمردين.
و بالتالي قد يكون من الصعب إغفال دور الحزب في المستقبل خاصة إذا ما استمر شبابه في لعب دور فاعل في الدفاع عن البلاد. هذا التحول في دور الحزب الذي أصبح جزءً من جبهة الدفاع عن الوطن، قد يعكس تحولاً تدريجياً نحو إعادة دمجه في العملية السياسية في مرحلة لاحقة. بعدما يتم القضاء على التمرد و عودة الاستقرار. كذلك هناك جانب مهم أشار إليه حديث البرهان عن المقاتلين في الميدان أنهم “لا ينتمون لأي جهة أو حزب”، ربما يسلط ذلك الضوء على دور الشباب في هذه المعركة الوطنية، هؤلاء الشباب الذين انخرطوا في القتال ضد مليشيا الدعم السريع يمثلون كل أبناء السودان الذين نهضوا للدفاع عن السيادة الوطنية و هم في الواقع جزء من النسيج الاجتماعي والسياسي للسودان.
في حديثه أيضا رفض البرهان التدخلات الخارجية، حيث كانت الرسائل التي وجهها إلى المجتمع الدولي واضحة و حاسمة؛ فقد انتقد بشدة مشروع القرار البريطاني في مجلس الأمن، مؤكداً أن السودان رفض هذا القرار “لأنه كان يخدش السيادة الوطنية” و لا يتضمن أي إدانة للمتمردين. و أشار البرهان إلى أن السودان لا يوافق على أي حلول تأتي من الخارج معتبراً أن مثل هذه الحلول قد فشلت في أماكن أخرى مثل دول الربيع العربي في إشارة إلى ليبيا.
هذا الموقف يشير إلى أن السودان لا يرغب في تدخلات خارجية قد تؤثر على استقلاله السياسي أو تقوض مساعي الجيش السوداني في السلام و استعادة الأمن. و هناك لا بد أن نشير إلى حديث (بيريلو) الذي قال أنه “قدم مقترحاً للحل لقضية الحرب و أن الرئيس البرهان وافق عليه” هذا يؤكد أن هذا الحل جاء وفقاً لما يحفظ السيادة السودانية، و قد ذهب (بيريلو) عند ختام زيارته إلى جيبوتي حيث رئيس الايقاد (إسماعيل عمر قيلي) من ما يعني أن الدور القادم في المشكل السوداني ربما تقوم به الايقاد أو ربما تشكل فيه ركنا أساسياً بالنظر أيضا إلي المجهودات التي يبذلها مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للسودان (رمطان العمامرة).
علي الرغم من التأكيد على أن الأولوية في الوقت الراهن هي “القضاء على المتمردين” و تثبيت الأمن، فإن البرهان أشار إلى أن المرحلة التالية ستشهد خطوات نحو السلام و الاستقرار السياسي. فقد أكد أن السودان لن يذهب إلى مفاوضات أو وقف إطلاق نار إلا بعد انسحاب المتمردين من المناطق التي احتلوها مشدداً على أن هذه هي الخطوة الأساسية قبل أي عملية سياسية. كما أضاف أن السودان سيعمل على استكمال الفترة الانتقالية عبر تشكيل حكومة مدنية من المستقلين، مشيراً إلى أن السودانيين هم من سيقررون ذلك عبر “حوار سوداني – سوداني” لإدارة البلاد في المرحلة المقبلة.
عليه من واقع ما نراه من وجه الحقيقة فإن خطاب الرئيس البرهان حمل رسائل عديدة متوازنة تجمع بين الحسم العسكري و التمهيد لحوار سياسي داخلي في المستقبل القريب، كما أكد بوضوح موقفه من الدعم السريع و داعميه، بالإضافة إلى تأكيده على ضرورة استبعاد أي مشاركة سياسية للمليشيا و أتباعها مما يعكس عزماً على تحقيق الأمن و الاستقرار في البلاد.
دمتم بخير و عافية.
الخميس 20 أكتوبر 2024م. Shglawi55@gmail.com