في فبراير من العام الجاري أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن تعيين (توم بيريللو) كمبعوث أمريكي خاص للسودان حيث كُلّف بتنسيق السياسة الأمريكية تجاه السودان و تعزيز الجهود الرامية لإنهاء الأعمال العدائية، و ضمان وصول المساعدات الإنسانية بلا عوائق و دعم الشعب السوداني في سعيه لتحقيق طموحاته بالحرية و السلام و العدالة. و لكن رغم هذه المهام لم يزر بيريلو السودان إلا اليوم، حيث وصل إلى مدينة بورتسودان في زيارة هي الأولى له بعد تعيينه، و ذلك للقاء رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان و بعض المسؤولين في الدولة و حاكم إقليم دارفور.
تأخرت زيارة (بيريللو) عدة مرات مما أثار تساؤلات حول الدوافع وراء هذا التأخير، على الرغم من أنه كان يملك صلاحيات كبيرة في التنسيق مع الحكومة السودانية حول عدد من القضايا المصيرية فإن وصوله إلى بورتسودان اليوم كان مُحاطاً بكثير من الإجراءات الأمنية المشددة و هو ما يثير شكوكاً حول الأبعاد السياسية لهذه الزيارة. فمن جهة يحرص السودان على تحسين علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل الظروف الراهنة التي يمر بها لكن من جهة أخرى تعكس الإجراءات الأمنية المصاحبة للزيارة ربما درجة من التوتر و عدم الثقة بين البلدين.
على الرغم من أن المبعوث الأمريكي الخاص أكد في تصريحات سابقة على أهمية دعم السودان في مرحلة ما بعد الحرب، فإنه اليوم حسب توقعات مراقبين سوف يركز علي عدد من الملفات الحساسة التي تمس مستقبل السودان و في مقدمتها دور “قوات الدعم السريع” المستقبلي بحسب ما نقلت “الشرق” التي قالت إن بيريلو أوضح لطرف ثالث أن واشنطن ستبحث مع الجانب السوداني مستقبل قوات الدعم السريع. كذلك كان المبعوث توم بيريلو قد قال في تغريدة على منصة إكس: ” أشعر ببالغ القلق إزاء التقارير التي تفيد بإقدام قوات الدعم السريع على تسميم مئات السودانيين في قرية الهلالية. فتسميم الطعام يُعد عملًا شنيعًا يهزّ ضمير الإنسانية خصوصًا في بلد يعاني أصلًا من المجاعة ، وإن صحّت هذه المعلومات ينبغي محاسبة قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان “دقلو “وجميع قيادات قوات الدعم السريع. و نطالب بإيصال الإمدادات و المساعدات الطارئة إلى منطقة الهلالية على الفور”. هذه التغريدة بحسب مراقبين ربما هي رسالة نهاية التعاطف مع مليشيا الدعم و بداية استعادة الثقة بينه و بين السودانيين و حكومتهم و الجيش.
كما أن تصريحات بيريلو حول إمكانية محاسبة قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان “حميدتي” ربما تعكس رغبة واشنطن في تعديل المواقف العسكرية في السودان بما يتماشى مع مصالحها الاستراتيجية في المنطقة و ما يمكن للجيش من ممارسة دوره الطبيعي في حماية البلاد. هناك أيضا تأكيدات من جانب المبعوث الأمريكي على ضرورة التحقيق في الانتهاكات الإنسانية و منع الهجمات على قوافل الإغاثة، و هي جملة من القضايا التي يمكن أن تكون قد تم تناولها في محادثاته اليوم مع المسؤولين السودانيين .ما يثير الاهتمام في هذه الزيارة هو الحديث الإعلامي المنتشر في (الميديا) هنا و هناك عن “تسوية سياسية محتملة للأزمة السودانية” قد تشمل عودة تنسيقية القوى المدنية إلى الساحة السياسية و “ليس السلطة” فالعودة للسلطة يقررها الشعب السوداني لجميع القوي السياسية.
بحسب مصادر إعلامية مقربة فإن (بيريللو) قد ناقش مع المسؤولين السودانيين إمكانية إحياء دور “تنسيقية القوى المدنية” و التي تُعتبر أحد الخيارات التي يروج لها الغرب لإعادة ترتيب الوضع السياسي في السودان بعد الحرب. في هذا السياق يبدو أن هناك توجهاً أمريكياً لإنهاء وجود قوات الدعم السريع في المشهد السياسي و العسكري السوداني و ذلك في محاولة لتبديد مخاوف السودانيين من استمرار هذه القوات في المستقبل السياسي للسودان، كما أنه يواجه تحديات كبيرة في العثور على بدائل موثوقة من المدنيين لدعم التحول الديمقراطي في ظل وجود تيارات سياسية وطنية أثبتت انحيازها إلى جانب الجيش السوداني خلال حرب الكرامة هذه و التي باتت هي الأقرب لتشكيل ملامح اليوم التالي من الحرب. لذلك من المهم توسيع النظر للقوى السياسية المدنية و ذلك لدعم الحوار الوطني السوداني السوداني الذي لا يستثني أحد.
عليه و حسب رؤيتنا السياسية للمشهد يبدو أن هناك نوعاً من الغموض يكتنف التوجهات الأمريكية في السودان، فبينما يدفع المبعوث الأمريكي نحو إنهاء الدور السياسي و العسكري لقوات الدعم السريع تشير بعض التحليلات إلى أن هناك أطراف إقليمية قد تواجه صعوبة في إيجاد بدائل للقيادات المدنية التي جرى تحضيرها مع بروز دور القوى السياسية الوطنية و بروز دور الإسلامين في الساحة السياسية. هذه الأزمة قد تتطلب بناء تحالفات جديدة قد تُعيق قدرة الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها في السودان أو ربما تساعدها في حال صعود التيار الاصلاحي وسط الإسلاميين باعتباره اكثر تفهماً لمسالة المصالح المشتركة بجانب قدرته علي تشكيل تحالفات مع القوى السياسية الأخرى في الساحة السياسية.
كذلك هناك جانب مهم يجب أن يؤخذ في الاعتبار و هو ما أكّد عليه مراقبون فإن التحولات العسكرية الواسعة لصالح الجيش السوداني تُعد مؤشراً على أن هذا الجيش استطاع أن يحقق مكاسب كبيرة على الأرض، و هو ما قد يعقّد محاولات القوى الخارجية لتعديل المشهد السياسي بما يتماشى مع مصالحها لا سيما أن السودانيين في الغالب الأعم يدعمون قيادة الجيش و يقدمون أولوية الأمن علي ما سواه.
عليه و وفقاً لما نراه من وجه الحقيقة تظل زيارة (توم بيريللو) إلى السودان محاطة بالكثير من الغموض و التحليلات المتوافقة و المتباينة. في حين أن بعض المتابعين يتوقعون أن تكون هذه الزيارة بداية لتسوية سياسية تشمل البدايات الأساسية للسلام و استعادة الأمن للسودانين. السؤال الذي يبقى: هل ستكون هذه الزيارة مفصلية في تشكيل مستقبل السودان؟ أم أن التحديات الداخلية و الخارجية ستظل تحول دون تحقيق تلك التسوية؟ من المؤكد أن الأيام القادمة ستكشف عن المزيد من التفاصيل حول هذه الزيارة ، و مدى تأثيرها على العلاقة بين السودان و الولايات المتحدة و على مسار الحرب في البلاد.
دمتم بخير و عافية.
الإثنين 18 نوفمبر 2024م. Shglawi55@gmail.com