بالأمس تحدثت مع عدد من الأصدقاء و الأحبة عن فكرة العودة إلى الخرطوم و السودان، و اتفق الجميع أن هذه هو الوقت المناسب لبداية الزحف إلى الديار زُرافات و وحدانا. اتفق الجميع على أن العودة لن تكون كما يتصورها البعض على شاكلة الأفلام الهندية التي يحتشد فيها الناس و أمتعتهم في محطات القطارات و المطارات و الباصات و هاك يا وداع و بكائيات حد النحيب، ثم طفلة تائهة هنا و آخر يجري هناك و مناداة بمكبرات الصوت الرحلة رقم كذا المتوجهة للخرطوم، و الرحلة رقم كذا المتوجهة للميناء البري أم درمان، و الرحلة رقم كذا لمحطة القطار إلى بحري، الأمر مختلف عن ذلك كثير أيها الأحباب، العودة هذه تظل قرار فردي و قد بدأت منذ أن طهر الجيش أم درمان من التمرد، كانت عودة بهدوء و شجاعة، مثلما كان الهروب من ويلات الحرب بذات الهدوء والشجاعة.
بالأمس حسب وكالة السودان للأنباء قال مصدر مسؤول بمعبر (أشكيت) الحدودي بوادي حلفا إن المعبر استقبل عدداً كبيراً من السودانيين الذين نزحوا بسبب الحرب إلى مصر، و أن تلك الأعداد جاءت في إطار العودة الطوعية بعد بشريات الانتصارات التي عمّت البلاد، إلى جانب عدد من المخالفين للوائح الدخول و تم ترحليهم، و كشف المصدر أن عدد الذين عادوا إلى البلاد عبر معبر اشكيت في شهر أغسطس بلغ ( 7890) شخصاً، و في سبتمبر ( 12539) شخصاً غالبيتهم من الأُسر، موضحاً بأن أغلب قرار عودة الأسر السودانية من الشقيقة مصر ارتبط بانتصارات القوات المسلحة و استرداد أراضي ولاية الخرطوم مؤخراً، يبقى بعد ذلك أمر العودة تحكمه الظروف الإجتماعية و الفروق الفردية بين الناس بحسب الحنين للوطن و للمكان و الذكريات و في هذه بالتأكيد تفوق أهل الأدب و الفن و الشعراء المعجونين من طينة الجمال، أول أمس عاد النور الجيلاني إلى الكدرو حين سمع عبور الجيش كبري الحلفاية، و وجد في استقباله أحبائه و جماهيره، وجد الجيش مرحباً به و أوقف له سيارة ذات دفع رباعي لتقله إلى داره آمناً سالماً موفور الكرامة، إلا إن صاحب (كدراوية) أصر أن يعبر الكبرى (كداري) راجلاً رغم الإعياء و التعب ، مكّنوه من ذلك بضع خطوات ثم أوصلوه إلي بيته ، و مثله فعل صاحب (القاش وشمس الصيف القيف يعاين القيف) ذلك الأنيق جزيل العبارة (عبد الوهاب هلاوي) عاد إلى (الحلفاية) حيث الذكريات و الدار الوريف و الجيرة التي تغنيك عن الدنيا و ما فيها أو هكذا وصفها، و كتب عنها هذه الكلمات الأنيقة بعد غيبة استمرت منذ قيام حرب المؤامرة، الرجل تدفق شِعراً و كلمات جزلى كعادته: “ها أنا أعود لداري بحمد الله في مدينة الحلفاية، نعم لم يتركوا لي في الدار من شئ .. لقد أخذوا كل شئ .. فقط عجزوا عن أخذ قلبي .. إيماني بربي .. و ثقتي في القادم من الأيام .. شكراً أهلي في الجيش الذين أعانوني على طريق العودة.. شكراً صديقي النبيل محمد حامد.. سأكتب لاحقاً وبتفصيل ، والمكيف بكره برجع ، برجع المال .. و الأثاث.. الذهب يوم بكرة برجع.. تاني بيرجع لينا ماس.. المهم أخلاقنا ترجع .. وتاني نرجع نحن ناس .. الحمد لله رب العالمين” هكذا ختم مناجاته.كذلك يستعد الأنيق (عاصم البنا): “الشافنا راجعين لي ديارنا .. أصلو ما كضب .. قريب ، لا معابر.. لا في عابر.. لا جوازات.. لا تذاكر ، لافي زول عايش غريب ، الشافنا قاعدين نص ديارنا أصلو ما كضب قريب.، و عما قريب .. الهمبريب .. صدقني يا محجوب بعود .. يفتح شبابيك الحبيب”.
هذه ثنائية ما بعد الحرب احتشدت فيها العاطفة و الإرادة و المشاعر الطيبة و الحنين للوطن بين (هلّاوي) و (عاصم البنا)، تلك هي مشاعر أهل الأدب و الفن، كذلك عاد إسحاق الحلنقي إلى أمدرمان التي عشقها و عشقته عاد إلى إنسانها و أنسامها، قال فيها : “بكرة تظهري يا حقيقة و تكتب الأيام حكاية، تبقي قصة و عبرة باقية و تبقي للأجيال دراية ، تحكي عن أكبر مخطط ناوي للسودان نهاية”.
وعن عميل خائن لبلدو الله لا حققلو غاية .
وتحكي عن أبطال شوامخ قمة في فن الرماية .
ضحوا بالأرواح رخيصة وطفوا نيران البداية .
جيشنا عاتي وجيشنا صاحي أصلو ما بحتاج وصاية .
طالما من خلفو شعبو إلا هنا تفيض عناية .
هكذا اختلجت مشاعر السودانين وتزاحمت في حب الوطن والجيش وحلاوة العودة للديار التي تغنى بها الباشكاتب من قبل ، حلاوة العودة غنيناها في موال ، عليه يظل وجه الحقيقة في أهمية الاستطفاف الوطني في هذا التوقيت المهم من تاريخنا، اصطفاف يعلي معايير الإنتماء الحقيقي لهذا البلد لأجل إعماره ونهضته ونهضة انسانه، لن يتأتى ذلك إلا بوحدة أهل السودان جميعا دون اقصاء أو تمييز ، فقط بعد نبذ العنصرية والجهوية والارتهان للأجنبي ، والتصدي للأطماع الاقليمية، والدولية.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 8 أكتوبر 2024 م. Shglawi55@gmail.com