الخط المستقيم … بين مطرقة العودة و سندان اللجوء .. بقلم/ د.وفاء سعد عمر – خبير التربية الإيجابية

وخلعتُ رداء المعصية… أطوف حول القهر سبعًا، و ربما مئة… و صبري صوفي يؤدي مناسك الرحيل على حافة الموت… الفقد جمرٌ يحرق الجوف، و النزوح غصةٌ تذيب الحناجر، و الحرب تثني القامات و تذل الأنفس… المشهد قريبُ المدى، اختنق الصوت و ظل الصدى.
سيدةٌ أربعينية فقدت ابنها الأكبر أثناء اعتداء وحشي من قوات الدعم السريع على شرق النيل. وارته الثرى و بكته ملء قلبها، ثم احتسبته شهيدًا… دست حزنها في شقوق القلب و قررت اللجوء إلى بلد مجاور بحثًا عن الأمان و الاستقرار لها و لما تبقى من أبنائها. و بما أن تأشيرة الدخول إلى تلك الدولة أصبحت من المستعصيات بالنسبة للسودانيين، فقد سافرت إليها تهريبًا عبر الحدود. كانت رحلة الهروب مغامرةً، عانت من أهوالها وكادت أن تودي بحياتها وحياة أسرتها، لكنها نجت بأعجوبة من الموت.
بدأت معاناتها الجديدة في كيفية ترتيب أوضاعها المعيشية، لتصطدم بواقع قاسٍ، إذ لم تتمكن من إلحاق أبنائها بالمدارس في ظل الارتفاع الكبير للرسوم الدراسية، إلى جانب صعوبات تواجهها في استخراج الإقامة بعد فشلها في التواصل مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين للتسجيل، فقوائم الانتظار طويلة… كما أن صاحب العقار يضاعف الإيجار الشهري كل شهر حتى بلغ رقمًا لا طاقة لها به… و الآن، بعد أن ضاقت بها السبل، قررت العودة إلى السودان، وظل السؤال الذي يقتات من أوداجها: “هل العودة قرار صائب؟”
إن تقدم الجيش في المعارك، و إحرازه انتصاراتٍ متتالية، بعث الأمل في نفوس اللاجئين والنازحين للرجوع إلى بيوتهم، فمعظم الأسر ذاقت الويلات خارج السودان و تعيش ظروفًا اقتصادية واجتماعية و نفسية سيئة… فإما لديهم أبناء عجزوا عن إلحاقهم بالمدارس، أو أبناء تخرجوا في الجامعات ومعهم شهاداتهم، ولكنهم لم يجدوا وظائف فأصابهم الإحباط، أو من تخرجوا وقامت الحرب قبل حصولهم على شهاداتهم، فأُهدرت أحلامهم من طول الانتظار… وبالطبع، فإن الكثير قد فقدوا وظائفهم في القطاع الخاص، و منهم من يصله مرتبه الحكومي، الذي لا يسمن و لا يغني من جوع في ظل مواجهة غلاء الدول الأخرى، خاصة بعد انخفاض سعر صرف العملة المحلية… ثم تأتي الكارثة الكبرى، و هي ما يترتب على تلك الأوضاع من حالات نفسية قد تصل إلى الأمراض.
وعليه، فإن اللاجئين يعيشون في الوقت الراهن الحيرة، عالقون بين مطرقة العودة وسندان البقاء في تلك الدول… فهل عودتهم في الوقت الراهن يمكن أن تكون آمنة؟ هل واقعيًا انتصارات الجيش تعني أن الشعب غير معرض للانتهاكات؟ ما هي خطة الحكومة لعودة الحياة الطبيعية في المناطق المحررة؟ هل تمكنت الشرطة من اللصوص (والشفشافة) الذين سرقوا البيوت ونهبوها؟ متى يمكن أن تفتح المدارس؟ وهل ستكون رحلة الذهاب والعودة لأطفالهم آمنة؟ ثم هل؟ وهل؟ وهل؟الكثير من الأسئلة يحتاج اللاجئون السودانيون إلى إجابة عنها من قبل الحكومة قبل عودتهم، وخاصة تلك المتعلقة بأمنهم واستقرارهم ومعيشتهم. يكفيهم أنهم سيعودون إلى بيوتٍ معدمة من الأثاث والأبواب والشبابيك، وربما حتى الجدران… بيوت تدنست بخطى الخونة والمرتزقة. سيعودون وقد فقدوا بعض أهلهم وأحبتهم، حصاد أعمارهم… سيعودون أجسادًا ذاقت أرواحها المرارات